الثلاثاء - 23 أبريل 2024
الثلاثاء - 23 أبريل 2024

الضمير الجمعي والانتماء

الانتماء إلى الجماعة من أخطر قضايا الهوية لدى الشعوب، فهي التي تضبط شبكة العلاقات داخل الجماعة وخارجها، وتشكل العصبيات والقوميات، وما يعرف بالعادات والتقاليد، والوعي الجمعي.

وقد أثبتت الدراسات السوسيولوجية والإنثربولوجية أن الانتماء إلى الجماعة مكتسب وليس بالفطرة، وأنه بالإمكان تعديل اتجاه الانتماءات وتجديدها وتغييرها انطلاقاً من تغيير الأهداف والمصالح.

في عام 1954م، أجرى باحثون من جامعة «أوكلاهوما» الأمريكية، دراسة على مجموعة من طلبة الصف السادس المتجانسين في اللون وفي الأعراق وفي ثقافة المناطق السكنية، وكان هدف الدراسة قياس أثر تشكيل وحل جماعتين متصارعتين من 22 طفلاً ومتابعة سلوكيات الأطفال واتجاهاتها وتحولاتها.


ومن أجل ذلك قسم الباحثون الأطفال إلى مجموعتين ثم نقلوهم إلى إحدى الغابات بحافلتين منفصلتين، وتم تلقين كلتا الجماعتين ثقافتين مختلفتين، إحداهما لبقة والأخرى عدائية، وما إن بدأت عمليات التخييم حتى بدأ الصراع بين الجماعتين والسباب والشتائم من الطرفين.


ثم تعمد الباحثون خلق (مصالح) تجبر الجماعتين على التعاون في نقل المؤن وإصلاح السيارة وتوفير الاحتياجات، فتحسنت علاقة الجماعتين وبدأ الأطفال مشاركة بعضهم اللعب والطعام والأغاني، وعادوا إلى منازلهم في نهاية الرحلة في حافلة واحدة ينشدون جميعاً النشيد الوطني الأمريكي.

تفيد الدراسة السابقة استناداً إلى استنتاجات الباحثين أن الأسرة والمجتمع الأولي للفرد هو الذي يصنع مفهوم «نحن» و«هم» في الوعي الفردي والجمعي، ثم تأتي الخبرة الفردية فتدخل «الأنا» في «هم» ليتغير تشكيل «نحن» بناء على احتياج الفرد واهتماماته وأهدافه الجديدة ونمط حياته المتغير، وعلى أرض الواقع ومن دروس التاريخ فإن عوامل كثيرة تجبر البشر على تغيير انتماءاتهم بالزواج والهجرة وبدمج الدول أو انفصالها وبالاعتناق الذاتي للأفكار والإديولوجيات.

لذلك فإن تضييق الانتماءات في الأسر والعصبيات والقوميات أصبح سلوكاً يتنافى مع روح العصر المنفتح والمتشابك في الأهداف والمصالح، كما أن إضفاء قداسة ما على أي من الانتماءات لأسباب إديولوجية أو عرقية، أصبح منطقاً خارج التاريخ وشكلاً من الانعزالية، التي يتحمل تبعاتها الفرد أو الجماعة دون أن يؤثر ذلك في حركة الجماعات الأخرى، التي تنفتح على بعضها والتي تجدد انتماءاتها ومعتقداتها لتحقيق الاستقرار والرخاء لأفرادها.الانتماء إلى الجماعة ليس من الثوابت، إنما هو من المتغيرات، وهذه القاعدة تفرض علينا أن نضمن تماسك الجماعة بتعزيز صلاتها الداخلية، لكن دون أن تتحول الجماعة إلى كتلة مواجهة للجماعات الأخرى، ودون أن يتحول الفرد إلى رهينة بيد الجماعة تتحكم في تفكيره وسلوكه وترسم له خط سيره.