الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

قليل من البرغماتية لن يضر

توصف الفلسفة البرغماتية بأنها أكثر الفلسفات رواجاً وقبولاً بسبب طبيعتها العملية، فمنذ تبلورها على يد آبائها المؤسسين تشالرز ساندرز، ووليام جيمس، وجون ديوي عام 1870م، يعاد بعثها ودراستها وتفسيرها، وقد شهدت أوج مراجعاتها والترويج لها في عشرينات وثمانينات القرن الـ20، والآن ثمة مقاربات يجري ربطها بالبرغماتية في أكثر من مجال.

مبادئ البرغماتية كثيرة ومتشعبة، كما أن تطبيقاتها متنوعة، ولكن أفضل تبسيط للبرغماتية هو مقارنتها بالفلسفات المثالية، فالفلسفات المثالية تتشبث بالمبادئ والقيم وتنحاز لها، والمثالي مستعد لتحمل نتائج تمسكه بالقيم والمعاناة من أجلها، أما البرغماتي فإنه (يفحص) المبادئ ويمتحن مدى إمكانية تطبيقها، ثم يقيم نتائج التطبيق، ومن ثم يحكم على المبادئ ومدى فاعليتها ومنفعيتها للفرد والمجتمع.

وفي كتب الفلسفة والاجتماع جدل أخلاقي كبير حول البرغماتية ومساوئها، أو الترويج لها وإبراز إنتاجها العلمي والاقتصادي، الذي هو بحق، واضح ويصعب تجاهله.


وفي أحدث البحوث والدراسات حول التطبيق العملي للبرغماتية وتمثلاته، محاولات حثيثة لتجاوز التصورات السلبية حول شراسة البرغماتية وانتهازيتها، حيث تجري الموازنة بينها والقوانين والنظم الضابطة للمجتمع، لإيجاد صيغ جديدة ومرضية لمفهوم البرغماتية، بأن يتحقق تصور جديد وعملي للمنفعة في وعي الناس يختلف عما تم تدواله من قساوة الغائية التي تروج لها الصورة النمطية عن البرغماتية، أو تمثل في الاستخدام المتطرف لمبادئها من قبل عدة جهات، ومنها جهات اقتصادية دولية، وجهات سياسية عظمى.


إن الوقوف الذاتي أمام الفلسفة المثالية والتطبيق العملي للبرغماتية يستحق تأملاً شخصياً من الإنسان نفسه، فما هي المبادئ التي تستحق المعاناة والتضحية لأجلها؟ وكيف يحقق الإنسان أهدافه ويشعر بالاستقرار إن لم يتمتع بمنافع ما يفعله؟ وفي أي مرحلة من النفعية يصبح الإنسان انتهازياً وشريراً ومؤذياً لغيره؟.. إنها معادلة ذاتية، قد لا تقدم لنا المقاربات الجديدة فتوى تصلح لكل فرد على حدة أو تناسب الجميع على قدم المساواة، ولكن البحث الذاتي جدير بوضع معادلات تضبط فلسفتنا الذاتية تجاه مسائل الحياة وتحدياتها التي نواجهها يومياً ونمتحن بها في ظروف شتى.

إن التعقيدات والتداخلات التي شهدتها الحياة تبدو وأنها عصية أكثر مما يستطيع الفرد فهمها وضبطها، كما أن شعور الفرد بأن خيوط (اللعبة) ليست في يده، وأن الطبيعة الجديدة للحياة حولته إلى أداة منفذة لقوانينها، يجعل الحسابات أكثر ضبابية، فالإنسان يحتاج لتحقيق أهدافه والحصول على المنفعة، لكنه أيضاً لا يريد أن يخسر إنسانيته وكرامته وكثيراً من المبادئ التي تبقيه إنساناً بمعنى الكلمة.