الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

المعمار ثقافة الأوطان

إن رؤية يوري لوتمان في كتابه (الفضاء المكاني)، والتي يقرر فيها أن كل (ثقافة تنتظم داخل إطار ينتمي لمكان وزمن خاص)، تقدم تنظيما عاما لعلاقة المكان والزمان من حيث الكينونة الفضائية والقدرة على التموضع الثقافي؛ ذلك لأن أي كينونة مكانية تمثل فضاءً موضوعيا من حيث الرمزية والتعيين الثقافي الذي يمثل الشكل الكوني لهذه الكينونة.

لذا فإن السيرورة التي يقدمها المكان من حيث قدرته على تمثل القيمة الموضوعية في التاريخ الإنساني تشكل المنطلق الحضاري الذي يتأسس عليه الكيان المعرفي للمكان؛ لأنه يعود إلى مرجعيات تاريخية وقدرة على تشكيل مجموعة من الأنساق الفضائية، حيث تتصل مع فضائها المحيط في علاقات ثقافية عدة، ستكون ضمن سيرورتها مركزا ثقافيا قادرا على تأسيس معاييره وطرائق ممارسته الإبداعية في أشكال عدة.

ولهذا سنجد أن تراثنا المعماري المتشكل في القلاع والحصون والقصور والمساجد وغيرها، تشكل أنواعا من الكينونات الثقافية المرتبطة بالزمن من ناحية وفضائها المحيط من ناحية أخرى، لتكون في دينامية إبداعية لا تعكس قدرة الإنسان على الإبداع وحسب، بل أيضا قدرته على التماهي مع هذه الكينونة، لنجد أن هذه الأمكنة تكشف ثقافة المجتمع وزوايا رؤيته إلى الحياة والفضاء من حوله وبالتالي علاقته مع هذا الفضاء الكوني الشاسع.


إن هذه العلاقة الثقافية التاريخية للمكان لا تخص تلك الأنواع التراثية وحسب بل حتى أماكن عيشنا (البيوت، والعمارات والشقق وغيرها)، وأماكن التسوق (الأسواق المفتوحة بأنواعها، والمراكز التجارية وغيرها)، وحتى أماكن الحياة الأخرى (الطرقات والأحياء)، كلها أماكن لها مركزية ثقافية ذات أنساق تاريخية تشكل قدرة على التأثير والتواصل الإبداعي الحضاري، ولعلنا ندرك اليوم تلك الأهمية حينما نذكر (الأحياء التراثية أو الحارات القديمة)، وهي تلك الأحياء التي نوليها عناية خاصة بوصفها تراثا ثقافيا وحضاريا للمجتمعات، هي نفسها كانت في زمن ما مكانا لقضاء الحياة اليومية.


هكذا فإن التخطيط العمراني يتأسس على الثقافة ولا ينفصل عنها، ولهذا علينا أن ندرك أهمية هذا التخطيط ومدى قدرته على الحفاظ على الهُوية الثقافية لمجتمعاتنا، وحتى لا نجد ثقافتنا الوطنية هامشية في أوطاننا علينا إعادة النظر في تلك الكينونات المعمارية التي تزاحم للوصول إلـى المركزية المعمارية الثقافية في مدننا، وهو أمر لا يمثل خطورة على مستوى التراث الثقافي وحسب بل أيضا على مستوى قدرة المجتمع على التعبير عن ترميزاته الثقافية وتأسيس علاقاته مع محيطه الجغرافي والكوني.