الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

نقد نظرية الناتج المحلي الإجمالي

ليس هناك ما هو أبسط ولا أصعب من هذا التساؤل: نعم هناك اقتصاد يتقدم ولكننا لم نستفِد شيئًا.. هل سيأكل الفقراء الأرقام، وهل سينسجِون من الجداول والبيانات مفارش موائدهم أو ملابس أطفالهم؟.

إن المفارقة ببساطة، أن الاقتصاد يتقدم حقًا، فيما لا يتقدّم ملايين السكان، يذهب البعض إلى أن ذلك بسبب عدم العدالة في التوزيع، وأنّ معظم عائد النمو يذهب إلى أصحاب النمو، أي أن الأرباح الجديدة تذهب إلى الأثرياء القدامى!.

لقد بدأ تيار جديد في علم الاقتصاد ينادي بإلغاء نظرية احتساب القوة الاقتصادية عن طريق قياس الناتج المحلي الإجمالي، وأنّ المقياس يجب أن يكون "الناتج الكلّي".


إن "الناتج المحلي الإجمالي" يقيس الاقتصاد على أساس "الاستهلاك" الإجمالي وليس "الإنتاج" الإجمالي، أمّا "الناتج الكلّي" فإنّه يقيس ذلك كله، كذلك فإنّ "الناتج المحلي الإجمالي" يقيس الأشياء المادية فقط، ولا يمكنه قياس الأشياء المرتبطة بالجودة أو القيمة الإنسانية، ومجمل الخدمات، أمّا "الناتج الكلّي" فإنّه يقيس ذلك.


يقول "ديفيد بيلينج" مؤلف كتاب "وهم النمو: الثروة، الفقر، ورفاهية الأمم" في مقالٍ له نشرته مجلة "التايم" الأمريكية ديسمبر 2019: " منذ الثورة الصناعية، والفكر الاقتصادي يقوم على استراتيجية التوسع اللانهائي، ويقيس الناتج المحلي الإجمالي الأشياء المادية فقط، وهذا خطأ، يجب أن نقيس أيضًا: التأمين، ورحلات القطار، تدفق الموسيقى، يجب أن نحتسب أيضًا: وقت الفراغ، والعمل التطوعي غير مدفوع الأجر، والهواء النظيف، وانخفاض معدلات الجريمة، وجودة الحياة ومستوى الصحة."

لقد أصبح "بيلينج" وغيره سعداء بما وجدوه من تطبيقٍ لرؤيتهم في أقصى الأرض، فقد أعلنت الحكومة في نيوزيلندا وقف احتساب أداء الاقتصاد على أساس "الناتج المحلي الإجمالي"، وأن الاقتصاد يجب أن يتم قياسه على أسس شاملة، منها: الصحة العقلية، مستوى السكان الأصليين، سلامة الطفل، المعرفة الرقمية، الاقتصاد أقل كربونيّة.

وفي مقدمتها للموازنة العامة 2019 كتبت رئيسة الحكومة النيوزيلندية "جاسيندا أرديرن": "إنّ النمو وحده لا يؤدي إلى بلدٍ عظيم"، "إن الهدف لن يكون زيادة الناتج المحلي الإجمالي، بل تعظيم الرفاهية".

كان أول استخدام لمقياس "الناتج المحلي الإجمالي" في أمريكا عام 1937، وقد أصبح مقياسًا عالميًا بعد الحرب العالمية الثانية، وقد واجه المقياس النقد منذ بداياته، وحسب "سايمون كوزنتس" الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1943: "إنّ مقياس رفاهية البلاد نادرًا ما يمكن استنتاجه من خلال قياس الدخل القومي".

ينظر البعض باحترامٍ لهذه الأفكار الجادّة والنبيلة، غير أن بعض الرأسماليين الأمريكيين يريدون اعتماد ذلك، ليس من أجل رؤية أكثر عدالة، بل لأنّ ترك مقياس "الناتج المحلي الإجمالي" واعتماد قياس "الناتج الكلي" سوف يؤدي - محاسبيًا - إلى رفع حجم اقتصاد أمريكا إلى (45) تريليون دولار بدلًا من (21) تريليون دولار، وهو ما يباعد المسافة بين أمريكا والصين من جديد!.