الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

أمة العادي.. واللون الرمادي

وأسأل وربما تسألون: لماذا شاع إبداع الخداع في هذه الأمة؟ وقد قلنا إن السبب هو غياب فضيلة التدبر وإعادة النظر والمراجعة، وما سبب غياب هذه الفضيلة؟ هنا سبب الأسباب وعلة العلل، وأعني به غياب أو موت أو اغتيال الدهشة والعجب، وقد قالت العرب قديماً: «سيبقى الناس بخير ما تعجبوا من العجب».

والعرب ليسوا بخير الآن، لأنهم لا يعجبون ولا يندهشون ولا يذهلون وقتلهم (العادي.. واللون الرمادي)، فكل شيء لا شيء يهم، فنحن لا نندهش إلا ادعاء وتمثيلاً، ومهما قال الفلاسفة في تعريف الإنسان: بأنه حيوان مفكر أو حيوان ناطق، فإن تعريفه عندي وأظنه صواباً أنه حيوان مندهش، وقد تحدث القرآن الكريم صراحة عن موت الدهشة ونتيجته عندما قال المولى، عز وجل: «ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها»، والنتيجة: «أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون» (الأعراف: 179)، فغياب الدهشة يؤدي إلى عمى البصر والقلب وإلى الصمم، تماماً كما قال الله تعالى: «وكم من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم معرضون» (يوسف 105).

إن الإعراض هو غياب الدهشة، وإذا ماتت الدهشة مات معها الإبداع والتفكير والتدبر وإعادة النظر، فلا تزال الدهشة هي المحرك الأساسي لكل إبداعات واكتشافات الغرب، لكنها ماتت تماماً عند العرب، لذلك مات معها الاجتهاد والابتكار واندثرت وذابت الفروق الفردية بيننا وصرنا نسخاً مكررة طبق الأصل من كتاب رديء واحد، ولم يعد فرق ولا إضافة حين يأتي هذا ويذهب ذاك، نفس التصريحات والاجتماعات واللجان والندوات والموضوعات المطروحة منذ مئات السنين والأفكار التي أكل عليها الدهر وشرب، لأن أحداً لا يندهش ولا ينكر منكراً، وبالتالي لا يقدم جديداً، ويبقى الوضع أو الأوضاع على ماهي عليه حتي إشعار آخر لن يأتي أبداً.


لم يعد يدهشنا القتل الجماعي والصراعات العبثية والفساد المستشري والعنتريات التي ما قتلت ذبابة على رأي الراحل نزار قباني، وعندما ماتت الدهشة أصاب العرب توقف النمو الفكري وأصابهم الاعتياد والتكيف والتأقلم مع كل الأوضاع السيئة وذلك العبث الذي لا نهاية له، وقد يكون لحديث الدهشة الميتة بقية، لعل الأمة تخرج يوماً من اللون الرمادي!