الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

حضر الشكل.. وغاب المضمون

ليست كل أوجاع الإنسان صحية ونفسية وجسدية فحسب، ولكن قد تكون أوجاعه إنسانية ومعرفية وفكرية، حين تكون مع كل إصباح على موعد متجدد وعرض مستمر مع مصادر للمعرفة بلا حدود أو قيود، وأدوات تواصل عابرة للقارات والمحيطات ومتاحة في كل الأوقات، تحيط بك ليل نهار حتى غدت كالماء والهواء، ومع ذلك فأنت في غربة مكان ووجع إنسان وحيرة من الزمان وبين ثنائية الافتقاد والاشتياق.

والسؤال: من أين تأتيك ثلاثية الأوجاع الإنسانية والمعرفية والفكرية.. لا يحتاج الأمر لبحث عميق.. حدث ولا حرج، ضجيج هادر حولك في كل مكان، سلَب الهاتف المحمول العقول والمضمون وهدوء ساعات الأصيل، وسرق معها إنسان ما قبل المحمول: إنسان الإصغاء والحضور، إنسان اللقاء والحبور ورحابة الصدور، إنسان النقاء والصفاء ليحل محله بقايا إنسان بعينين زائغتين شاردتين، وحضور أشبه بالغياب، لنبحث عن ذاك الإنسان فينا.. لقد فقدناه وافتقدناه.

وأمّا عن أوجاعك المعرفية، فإليك سيدي قائمة الأعراض والإعراض في آنٍ واحد، كسل معرفي يرتقي إلى انتحار حضاري، وأمية جديدة صناعتها إدارة التفاهات، وصناعة الواقع الوهمي المزيف وتصدُّر مقاعد التنظير ومخاصمة العقل والتفكير والتطوير، وأضحت الشطارة أن يكون لديك إصدارين كلاهما لا يعرف الآخر: أحدهما خفي غير معلوم لا يعرف ولن يعرف الالتزام والإتقان والإنجاز، وأدب النتائج لأن عالمه حروف صماء جوفاء لملء الفراغات، والآخر في صمت دفين.


ووسط تلك الطواحين التى لا تنتج غير الضجيج، غاب المحتوى ومعه محتوى الإنسان، تسرب من بين أيدينا كتسرّب الماء من بين الأصابع.


وبات المشهد مزدحماً عن آخره بكثيرين ممن وُسِّموا بألقاب المفكرين والمتخصصين في كل شيء وفى أي شيء ولا شيء، وكلما مرت السنون ازداد الانفصام بين هؤلاء وبين ما يظنون أنهم به عالمون.

وتشتد ثلاثية آلامك الإنسانية والمعرفية والفكرية حين تبحث عن المضمون فيكون إيابك من الرحلة قشور، وحين تلتفت هنا وهناك يدهشك أن الباحثين منشغلون بسفاسف الأمور، والقراء لا تروقهم إلا دَعَةُ المعلومة الجاهزة، متنصّلون من تعب البحث الجاد أو نَصَب المعرفة المؤصّلة، وعزوف عن الفكر والارتقاء، حتى تكاد تتحول المخرجات من بحوث ودراسات إلى معلبات ووجبات جاهزة للتوصيل بعد التغليف والتعليب، ليصبح العقل غائباً تائهاً في الشكل والقشور بعد أن غاب المحتوى والمضمون.