الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

استدامة التراث الثقافي

إن الهوية تتأسس ضمن المعطيات الحضارية والتشكلات الاجتماعية، التي تمثل ذاكرة المجتمع وأداة توحيد وجدانه وتحقيق نهضته، ولهذا فإن المجتمعات تجعل من التراث الثقافي أداة فاعلة وداعمة لمنهج حياتها ومسوغ مطامحها، فالتراث يشكل ضرورة أساسية لمنطلقات تلك المجتمعات وكينونتها الحضارية، وذلك كله دفع الدول إلى وضع استراتيجيات وطنية قائمة على التراث.

لذا فإن فكرة (الإجماع الإنساني) التي يطرحها كليفورد غيرتز في كتابه (تأويل الثقافات) تؤكد أن «بعض جوانب التراث تتخذ أشكالها المحددة فقط نتيجة لأحداث تاريخية عارضة، بينما تتشكل جوانب أخرى منه على يد قُوى يمكننا وصفها بـ(الكونية الشاملة)» – كما يقول – الأمر الذي يجعل من التراث مكوناً له مرجعياته الثابتة والمتحولة زمانياً في الوقت نفسه، وذلك باعتباره سبب ديمومة الحضارة الإنسانية والتي تؤسس الطبيعة العامة للإنسان والخصوصية المستقلة وبالتالي (الهُوية).

ولكي تتأسس تلك الخصوصية وتلك الكونية في علاقة متوازنة فإن الدول تلجأ في استراتيجياتها وخططها الوطنية إلى تحقيق ذلك من خلال الحفاظ على التراث الثقافي، باعتباره الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الهُوية الوطنية والانفتاح على الآخر، وما يقدمه ذلك من آفاق تفتح أمام التراث رؤى قادرة على تحقيق التوازن إذا ما تم تفعيله بطرائق معرفية واعية.


ولهذا فإن منطقة الخليج العربي تميزت منذ القدم بهذه القدرة على التوازن وتحقيق رؤى تدعم الهُويات الوطنية، وتؤسس لقيم ثقافية ومعرفية قائمة على الانفتاح والمحافظة، ولعل سلطنة عمان برؤية السلطان قابوس بن سعيد ـ رحمه الله تعالى ـ الذي دعا منذ البدء إلى تلك المواءمة بين الماضي والحاضر فقال: «إننا وقد وضعنا بلادنا على طريق البناء والتقدم من أجل إقامة دولة عصرية إلا أن ذلك يجب ألا يكون على حساب تعاليم ديننا القويم أو على حساب تقاليدنا وتراثنا الحضاري الذي نعتز به اعتزازنا بأنفسنا»، تكشف رؤية تمثّل نموذجاً قادراً على إيجاد علاقة امتداد حضاري، قائم على المعطيات التاريخية والموجودات، والتي ستشكل منظومة معرفية كلية، ليست للماضي وحسب، بل للمستقبل إذا ما عملنا على تطوير هذه المنظومة بما يتواكب مع التقدم والتطور لمجتمعاتنا.


إن التراث الثقافي لا يؤسس المنظومة الفكرية للمجتمع وحسب، بل أيضاً يؤسس نظاماً يقوم على الاستفادة من معطيات التقنية والثورات الصناعية بما يسمح بالاستثمار في الثقافة، ويدعم الرؤى الوطنية لبلداننا، ويؤسس لاستدامة مجالات التراث وتطورها.