الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الشفافية.. وجهة نظر أخرى

كثيراً ما تمر بنا كلمة الشفافية محدثة تلك الرعشة اللذيذة لنسيم ربيعي في يوم صيف لاهب، وقرصة برد مؤلمة ذات شتاء قارص، بمرورها الذي يحمل الضدين من الترحيب والرفض، ندرك جيداً أننا لسنا من العالم الأول الذي يقدسها، وجعلها سمة حياته السياسية والاقتصادية والمجتمعية، ولا تلك الكيانات القابعة في آخر القائمة من دول تمثل الشفافية بالنسبة إليها، ضحكة تثير القهقهات بدلاً من الخوف من العقاب، إذا نحن في منتصف البين وبين، حيث نتمنى أن نرقى لأعلى درجات السُّلم، وفي الوقت نفسه نخشى مآلات هذا الرُّقي وما يمكن أن يُكشف من سوءات نراها فتنة ملعون من يوقظها من سباتها العميق، فطالما هي غارقة في ظلماتها، فدعوها فربما تكون منتنة، ومن الأسلم عدم كشفها حتى لا تزكم الأنوف رائحتها.

بعيداً عن المثالية في الطرح وأحلام المدينة الفاضلة، دعونا ننظر للشفافية من وجهة نظر أقل إجلالاً، ولنرى إن كانت بالفعل مطلوبة بالمطلق، أم يجب أن تطبق، فقط، وفق حدود مرسومة، حتى لا تتحول من سلاح للنزاهة والأمانة إلى وسيلة لإلغاء الخصوصية والسبق الإعلامي والسياسي، وطريقة يلجأ لها الأضداد في كل مجال، للنيل من خصومهم عبر إثارة علامات استفهام حول شؤون، من العبث السعي للكمال فيها، فوجود أخطاء وتجاوزات أمور يجب أن تُغتفر طالما نحن بشر معرضون للخطأ والزلل، ولا مانع من تجاوزها، طالما لم تؤدِّ إلى الضرر.

تشكيك الشفافية في كل شأن لا يُعلن عنه، يجعل منها عنيفة وظالمة أحياناً، ومنتهكة للخصوصية أحياناً أخرى، وبالذات حين تَعد ما هو غير مرئي، مثيراً للريبة، والذي بدوره قد يكون، فقط، غير مستدعٍ للظهور نتيجة عدم أهميته، فالغموض لا يعني السلبية التي تحاربها الشفافية المتسمة بالإيجابية، بل هو ربما ما يخفي الجمال، الذي لن نُغرم به طالما كان مكشوفاً لناظره دون إخفاء المثير فيه.


بقدر ما للشفافية من أهمية لا يمكن إنكارها في صنع المجتمعات المتقدمة فكرياً وإنسانياً، والتي أوجدتها الليبرالية الجديدة، بقدر ما يتوجب تطبيقها، الأخذ بالاعتبار ألا تقضي على الخصوصية والسمات الإنسانية الحميدة، والقيم الاجتماعية، كالثقة والسرية والخجل.


وفي هذا السياق، يقول عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني جورج سيمل: «إننا لا نحتاج إلى نسبة معينة من الحقيقة والخطأ، فقط، كأساس لحياتنا، لكننا أيضاً في حاجة إلى قدر من الوضوح والغموض»