مؤلم إلى حد الحزن، وحزين إلى حد الأسى، منظر الرجل ذو الثوب الأبيض، الفقير الساكن وراء جدران الفاتيكان، وهو يمضي في ساحة الفاتيكان وحيداً، من غير الجماهير الغفيرة التي اعتادت أن تملأ الساحة، فقد توارى الكل، خوفاً من العاصفة الرهيبة التي ضربت الخليقة برمتها، من أدنى الأرض إلى أقصاها.
متألماً، وبخطوات متثاقلة كان الحبر الأعظم لمدينة روما البابا فرنسيس يمضي جهة المنصة المنصوبة له، ومن على منصة الحديث كانت الأنواء تحيط به، كتلك التي هاجت وماجت في بحر الجليل قبل ألفي عام، والصرخة من البشر إلى السماء ورب السماء من أجل استنقاذ البشرية.
السماء في روما تلك الليلة كانت ملبدة بالغيوم، لكن العاصفة لم تكن من فعل الأعاصير، بل من كورونا، ذلك الزائر غير المحبوب أو المرغوب الذي قرع أبواب الإنسانية، وها هو يحصد ما يزيد على خمسين ألف ضحية.
حكمة الشيوخ تتبدى في محيا البابا الطيب القلب، بابا المسامحة والمصالحة، والذي أخذ يتكلم عن العاصفة التي كشفت ضعف الإنسانية، وأظهرت الضمانات الزائفة التي بنينا عليها برامجنا ومشاريعنا وعاداتنا وأولوياتنا.
أخذت الإنسانية في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية بنوع خاص في التمحور حول الذات، واعتبرت أن ثقافة الاستهلاك والامتلاء الجسداني هي طريقها نحو الإشباع، لكنها اكتشف أنها كانت تشرب من مياه مالحة، تزيد من عطش الظمآن، وقد تركنا وراءنا ما يغذي وما يعضد، وما يعطي القوة لحياتنا وجماعاتنا البشرية.
العاصفة بحسب فرنسيس أفرزت حقائق مؤلمة أشد من المرض، منها أن فيروس الكراهية أشد وقعاً وخطورة من فيروس كورونا، ذاك الذي لم يعد مستجداً، إذ أضحى مقيماً غير مرحب به في معظم دول العالم.
أجبرتنا المحنة أن نبحث عن جذورنا، وما يغيب أرواحنا، وأن نتنبه لكل محاولات التخدير التي سعينا في طريقها، فقد اعتبر البعض الثروة هي أفضل مسكن للمخاوف من صروف الدهر، ومضى البعض الآخر في طريق فرقة الأبيقوريين الفلسفية، والتي كان شعارها لنأكل ونشرب فإنا غداً نموت، غير أنه لاحقاً اكتشفنا جميعاً أنها مخدرات واهية، نسجت من حولنا بيوتاً أقرب إلى بيوت العنكبوت.
أسقطت المحنة الأقنعة التي اختفى وراءها الإنسان، بعضها أيديولوجي، والآخر دومائي، رأسمالية واشتراكية، أصولية وشوفينية، قومية وعرقية، وحين قرعت القارعة أجراسها اكتشف الكل أن هناك انتماءً مشتركاً واحداً، فراحت روسيا والصين تساعدان أوروبا، رغم العداوات القديمة، أما المشهد الأكثر مدعاة للتوقف أمامه، والتأمل في أبعاده، فكان حين حطت طائرة روسية بأدوات ومعدات طبية على الأراضي الأمريكية، وقد تناسى الجميع المنافسة الشرسة على القيادة والريادة بين الناتو وروسيا، واكتفى الجميع بالتعاطي على المستوى الإنساني، والإيمان بأن الإنسان هو القضية والإنسان هو الحل.
ظلمة كثيفة غطت ساحاتنا ودروبنا ومدننا واستولت على حياتنا، بعد أن سرنا قدماً بسرعة عالية، معتبرين أنفسنا أقوياء وقادرين على كل شيء.
الرجل الطيب الحزين، كما تبين قسمات وجهه، يصيح فينا ونحن على درب الجشع إلى الربح، وبعد أن أغرقتنا الأشياء، وأبهرنا التسرع، بأننا إذا لم نستيقظ أمام الظلم والحروب التي ملأت الأرض، فهناك ما هو أسوأ من كورونا قد يكون في الطريق.
إنه وقت استنقاذ البشرية من ذاتها.