الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

النقاش.. بداية الحل

صحيح أن كثيراً من مجريات التصعيد الإعلامي في أمريكا بعد مقتل «جورج فلويد» لا تخرج عن قواعد لعبة اقتراب الانتخابات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ولكن ثمة ظاهرة صحية فيما يحصل، وهي واحدة من محصلات الحضارة الغربية، إنها الجدية في نقاش المشكلات، والموضوعية في الحوار، والتعددية في إبداء الآراء.

العبارة التي كان يتوسل بها المواطن الأمريكي الأسود وهو على وشك الموت «أنا لا أستطيع التنفس» صارت وسماً لتاريخ طويل من معاناة السود، تلك العبارة وذلك المشهد وعلى حين فجأة، نكأ الجرح الاجتماعي في أمريكا، وفجر كل دمامل التمييز العنصري في الإمبراطورية العظمى، وأعيد بث الأفلام والصور التي وثقت تجاوز الشرطة الأمريكية في حق المواطنين السود.

خرج الكثيرون وسردوا حالات التمييز التي مروا بها ومشاعر الخوف التي يتعايشون فيها مع طبيعة المجتمع الأمريكي، التي ترى الأسود مذنباً حتى تثبت إدانته.


والأهم من ذلك، الجلسات الحوارية التي تضم نخباً من السود وخبراء اجتماعيين ومثقفين من البيض، تولوا تفنيد التاريخ الأمريكي والتشريعات الأمريكية، ومناقشة خطورة استمرار الوضع على ما هو عليه على استقرار أمريكا وبقائها متصدرة العالم المتقدم، فكان مستوى الحوارات متقدماً صريحاً بلا سقف، يشمل الجميع ويطمح إلى الحفاظ على وحدة الوطن وتعايش النسيج الواحد.


وربما هذا ما نفتقده في مجتمعاتنا العربية، فمشكلاتنا أكثر تعقيداً من مشكلات المجتمع الأمريكي، والتاريخ والأعراق والثقافة والانحيازيات الأيديولوجية داخلة بقوة في تفاصيل أزماتنا، والحوار أو النقاش فيها مضروب حوله بأسوار من الممنوعات والتحفظات، فنحن نناقش هوامش مشكلاتنا، وأطراف أزماتنا، أما جوهر الأزمة وفتيل اشتعالها الدائم، فمكتوب عليه عبارة «ممنوع اللمس»، وليس «لا أستطيع التنفس» التي تخنقننا بثقل وطأتها علينا! نحن لا نستطيع مناقشة تجديد الخطاب الديني بحق، لأن من خلفه تقبع متاريس من المعتقدات الفئوية لا يمكن إلغاؤها أو مراجعتها، نحن لا نستطيع مناقشة التاريخ لأن الفئات المتغلبة لن تسمح بتغيير استحقاقات الحاضر، وفي كثير من الدول العربية يتعذر مناقشة المواطنة المتكافئة والدولة المدنية، لأن تاريخ الحكم والهجرات ربط بصورة أو بأخرى بالمقدس وبمصالح النخب المسيطرة.

وإن الدرس المستفاد من الأزمة الأمريكية، ألا حل للمشكلات المتراكمة والأزمات الغائرة في المجتمعات إلا بكشفها أولاً بكل ما فيها من ألم وقبح وجراح متعفنة لم تبرأ بعد، وأن علاج الأمراض بالمسكنات ومشرط التجميل سيساعد على التعايش مع المرض، ولكن بالبقاء بين الحياة والموت.