الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

ثنائيات.. العجز والخوف

واحدة من أهم مشكلاتنا الثقافية هي كيف نكون شبيهين بالسلف الصالح وأوفياء لنهجه، أي إمحاء شخصيتنا المعاصرة بكل تناقضاتها والعيش داخل الماضي، لكن هل هذا ممكن؟

إن الماضي بكل آلياته وشروطه ومبرراته عاشه الناس كما جاءهم، وحاولوا أن يؤثروا فيه، وهذه الشروط غير متوفرة في الحاضر وحلت محلها آليات حاضر مختلف جوهرياً، بمعنى ما من المعاني نحن مجردون من كل شيء لا دخلنا عصرنا وقبلنا به ولو جزئياً، ولا فهمنا ماضينا كما يجب، ودخلناه كرجال من عصر آخر يريدون أن يغيروا ويتغيروا.. ثنائية مختلقة بامتياز.

في الوقت الذي نحلم فيه بحماية أنفسنا من شر هلامي لا نعرف كيف نعرّفه ونحدده إلا بالجملة السحرية: «إننا أمة ترفض الذوبان في الآخر»، نتعرى أمام الزمن، ونكشف عورتنا له، لا تغطينا بالجديد فسترنا أنفسنا، ولا غطينا أنفسنا بالقديم فحافظنا على بعض كرامتنا.


ويتكرر المنطق ونعيش في التجاور، رؤوسنا وصدورنا في عصر، وجزؤنا السفلي وأرجلنا في عصر آخر، وهنا مأساتنا، إذ علينا أن نتحمل في كل مناحي حياتنا، ازدواجية ثقيلة ومعطلة لكل تقدم، ثنائية مستهلكة للجهد، يشترك فيها العقل الرافض والعقل الخانع في تآلف غير منطقي وغريب، لا تضارب بينهما في أنانا الداخلية، يقبلان بعضهما بعضاً، لهذا نحن لا نجانب الصواب في المسألة، وسنظل داخل حيرة بلا حل، نورثها لأبنائنا.


فماذا لو أخذنا المسألة من منظور آخر، أن نؤمن أولاً بأننا أبناء هذ العصر، وهذا الزمن، كما كان آباؤنا وأجدادنا أبناء زمنهم، ركبوا الجمل والحصان، وباتوا في الخيام، وعاشوا بالتمر والحليب والفواكه المتوفرة، عاشوا على الشمع وقناديل الزيت، بينما نتنقل نحن اليوم في السيارات والطائرات، ونأكل ما تنتجه الأرض، ونبيت في بيوت حديثة ونعيش على الكهرباء، فكيف يمكن أن نتشابه خوف الذوبان؟

إن كل عصر يخلق ثقافته ومنطقه وهيمنته، معنيون بعصرنا بالدرجة الأولى، لا يمكن أن نعبر على حافة زمن يعنينا ونريد أن نتطور في صيرورته، نعيش في الهوامش ولا ننخرط في أي شيء، لأن الانعزال هو موت مع وقف التنفيذ، والزمن لا ينتظر أبداً، فهو يسير وفق منطقه وخطاه.

عندما اتسعت الفتوحات الإسلامية كان على العرب والمسلمين أن يستجيبوا لنمط حياة جديدة فرضتها المدنيات التي دخلوها وأدخلوا عليها من ثقافتهم ووعيهم وتحسيناتهم، وانتسبوا للحداثة بدون عُقد، وأبدعوا في كل المجالات العلمية والحضارية والتهجين مع الثقافات الإسبانية، والصينية والهندية والفارسية والشرقية عموماً بما فيها الثقافة اليونانية، وأعطى ذلك نتائج مدهشة في كل المجالات المعرفية: أليس العرب هم من قدم أرسطو لغرب رافض للعقل وقتها؟ ماذا لو قال ابن رشد وابن ميمون، والغزالي، والفارابي، وابن جني وغيرهم نخاف أن تمحى شخصيتنا في الثقافة الغربية، فلا نقترب منها؟ إذن لكانت المجتمعات الإنسانية مسطحة، ولما عرفنا ذلك الغنى الثقافي العظيم والسخي الذي ساعد البشرية على التخطي والتطور.