الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

المتعالمون والدخلاء.. لا فرق

التأملُ البسيط في منطوق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يحملُ هذا العلم من كل خلف عُدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين».. يفهم منه أنه إذا لم يقم أهل العلم العدُول بما أمر بهم معلمهم ومرشدهم وهاديهم، صلوات ربي وسلامه عليه، فستصير الفتوى فوضى سائبة، وسيصعب حتماً ضبطها والتحكم فيها.

ليس هذا فقط، بل هناك أمر آخر لا يقل أهمية عما تقدم، وهو ظهور بعض (المتعالمين) هنا وهناك، ونيلهم للأسف تقديراً ممن حولهم، وأحياناً تصديراً لهم، مع غفلة تامة عن التنبيه النبوي الصريح: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً؛ اتّخذ الناس رؤوساً جُهَّالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»، وبهذا يورطون غيرهم في الوقوع في المحظور.

وأحمد الله، سبحانه وتعالى، أن المسؤولية لن ترتفع عن هذه الفئة المتعالمة، بنص حديث: «من أُفْتِيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه»، وصدق الإمام ابن حزم، في تسميته لهم بالدخلاء؛ قال رحمه الله، في كتابه الممتع (الأخلاق والسير): «لا آفة على العلوم وأهلِها أضرُّ من الدُّخلاء فيها وهم من غير أهلها؛ فإنهم يجْهَلُون ويظنون أنهم يَعْلَمُون، ويُفْسِدُون ويُقَدِّرُون أنهم يُصْلِحُون».


يذكر الإمام ابن الصلاح في كتاب (أدب المفتي والمستفتي): أن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله عنه، ذكر أن رجلاً دخل على إمام المدينة ومفتيها وشيخه ربيعة بن أبي عبدالرحمن، فوجده يبكي؛ فقال له: ما يبكيك، أمُصيبة دخلتْ عليك؟ فقال: لا، ولكن استُفتِيَ من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، وبعضُ من يُفتي ههنا أحقُّ بالسجن من السُّرَّاق».


أختم بأن المؤسف الأكبر في موضوعنا هذا، التباس موضوع علماء الدين على عوام الناس بل غالبهم، الذين لا يُفرِّقُون بين اختصاصات العلماء، فيظنون الخطيب المِصقع، أو الواعظ البليغ، أو الداعية المشهور، أو المفكر الذائع الصيت، من أهل الفتوى، لأن تخصصه ديني، وهو كذلك إلا أنه لا علم له بالدقائق، مثل الفقه وأصوله، أو الحديث ورجاله، مع أن القاعدة العامة تقول إن لكل علم أهلُه، ورحم الله امرَأً عرف قدره، فوقف عنده.