الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

صناعة الدهشة

يولد الطفل صفحةً بيضاء خالية من التجارب والخبرات، تشدّه التفاصيل الصغيرة التي يراها لأول مرة، وتأسره الدهشة في أكثر الأمور بساطة، ويشعر بأن كل يوم يمر عليه بمثابة رحلة مشوّقة لاكتشاف جوانب مختلفة من الحياة.

ذاك الأمر يدفعه إلى طرح كثير من الأسئلة الغزيرة إلى درجة تجعلنا ـ نحن الذين عجنتنا الحياة حتى باتت الدهشة من النوادر ـ نحاول إيصال الإجابات الصعبة في كلماتٍ وصور سهلة وبسيطة يمكن لعقل الطفل، ذي السن الصغيرة والمخيّلة الكبيرة، أن يستوعبها، ويقتنع بها.

وليست الإجابة عن التساؤلات العجيبة هو ما يطمح إليه التربويون فقط، بل محاولة تطعيم هذه الإجابات بعناصر التشويق للحفر عميقاً، واستخراج المزيد من الأسئلة، كي لا يقف فضول الطفل عند حد معيّن، ويستمر في التساؤل واستكشاف المزيد من خفايا الأمور عليه، وعلينا.


لعل هذا ما يدعونا إلى الاهتمام بشكل كبير بصنّاع الدهشة، أولئك الذين لا يخشون الهدم والردم، لأن بيدهم أيضاً حِرفة البناء والتشييد، فيعيدون إلينا الرغبة في البحث والتساؤل كثيراً ومطولاً عن ماهية الأشياء وجدواها، في حلقات يمرّرون خلالها الفكرة تلو الفكرة، والسؤال تلو السؤال، أمام مرايا لا تتحدّث لغة المواربة والتنميق، فتتّسع صدورهم للحقيقة، ويتوحّدون مع العمق أكثر فأكثر.


إن قيام مجتمع التساؤل يبدأ مع الطفل، الذي اعتاد في أماكن كثيرة من العالم أن يُقدَّم له الحشو جاهزاً سريع الذوبان، وهو سينسى هذا الحشو على الأغلب ولن يستفيد منه، لكنه سيستطيع أن يمارس شيئاً واحداً فقط على الأقل طوال عمره، وهو تلقّف الدهشة كيفما كانت، وقدرته على تطويع المستحيلات في عقله.. ببساطة، قدرته الدائمة والمستمرة على التساؤل.