الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

دروس من فينيسيا

لا شك أن زيارة مدينة فينيسيا أو «البندقية» في وقت انتشار جائحة كورونا، وبالتزامن مع انهيار ميناء بيروت، تنطوي على تجربة فكرية قيِّمة، وتقدم «أجمل مدينة على سطح الأرض» درساً مفيداً في الحوكمة الناجحة والمرونة الفائقة. وخلال أكثر من 1000 عام مضت، ظلّت تستأثر بإعجاب بالغ، بسبب تنظيمها الحضري الباهر وهندستها المتقنة وقنواتها المائية التي تنعكس على صفحة مياهها، صور الكنائس والقصور والمتاحف، التي تبقى شاهدة على عظمتها التاريخية. ولم تحقق فينيسيا مكانتها التي تُميِّزها عن بقية المدن والحواضر الأوروبية، إلا لأنها تعد نقطة التقاء الشرق والغرب، وهي تجمع عجائب وغرائب تأتيها من كل حدب وصوب وحتى من الصين والهند، وتنتشر منها إلى أوروبا كلها. وكان من الضروري التغلب على صعوبات كثيرة حتى تحافظ على مكانتها المتفردة تلك، لأنها مبنية فوق عشرات الجزر المتجاورة وتكثر فوق أراضيها المستنقعات التي كانت تحميها من الغزوات الآتية من الأرض اليابسة خلال التاريخ، وهذا ما يجعلها مكاناً لانتشار الأمراض التي يمكنها أن تقضي على نصف سكانها لو تحقَّقت لها الظروف المناسبة للانتشار. وتمكَّنت فينيسيا من تحقيق انتصارات مشهودة في فتوحاتها الخارجية من خلال الحروب الشرسة، التي خاضتها ضد موانئ إيطاليا القوية الأخرى، مثل: جنوى، وأيضاً ضد اليونانيِّين، من أجل السيطرة على الجُزر الشرقية للبحر الأبيض المتوسط. ويكمن سر شهرتها وذيوع صيتها في نظامها العملي الناجح للتجارة والإدارة، ولم تكن فينيسيا، ألبتة، مجرّد جمهورية تسعى لتطوير العمل والتبادل التجاري فحسب، بل إن الثروة الطائلة التي يتم جمعها كان يتم صرفها على تطوير الفنون والعناصر التراثية. ويبدو أنها كانت تعمل بجد على بناء مجدها الخالد والأبدي، وربما تكمن العبقرية في إدارة المدينة في نظامها السياسي الذكي، ولقد ظلَّت لفترة طويلة جمهورية صغيرة لم يحدث قَطُّ أن حكمتها أسرة معينة ولا قائد أو زعيم منفرد، مدنياً كان أم عسكرياً، وكانت مسؤولية إدارتها تقع على عاتق النواب ومجالس الشيوخ، وهي وحدها الأنظمة المسؤولة أمام الشعب، التي ترعى شؤونه ومصالحه بكل عناية، وكانت الحياة السياسية والاجتماعية في هذه الجمهورية الصغيرة تشهد حالات من التوتر في بعض الأحيان، ولكنها تنتهي دائماً على أساس تحقيق المصلحة العامة وسواد حكم القانون. واختلفت فينيسيا عن مدن إيطاليا الكبرى الأخرى، مثل: نابولي وميلانو وفلورنسا، من ناحية شعور مواطنيها بالكرامة والفخر في الانتماء إليها وحبها.