الخميس - 18 أبريل 2024
الخميس - 18 أبريل 2024

فتوّة «الليموناضة» الأمريكية

اتهمني - محقاً - صديق مهاجر من الجيل الثاني بأنني «رومانسي» في فهمي للواقع الأمريكي، الذي لم يعد «أمريكا المهاجرين الأوائل» ولا الآباء المؤسسين ولا حتى أفلام الأبيض والأسود التي تعلي من قيم تلك «المدينة المشعة الرابضة على ربوة»، لقد أتت فاتورة الحروب الخارجية والعولمة على كثير من القيم في «العالم الجديد».

نصحني - وقد أصاب ـ بأن ألوذ وأسرتي الصغيرة بأقاصي ضواحي واشنطن، وقد فعلت منذ نحو عقدين غير آبهٍ بعناء المشوار إلى مركز العمل في روتين كانت له تبعاته المؤقتة على صحتي.

من مزايا الضواحي - وسأعود في مقالة مقبلة ـ للحديث عنها سياسياً، الحفاظ على ثلاث ركائز مهمة: الأسرة، الإيمان والجيش، وأخص الأخيرة بحديثي.


فهي مؤسسة أعشقها في دول العالم كله، لأنها الأكثر صدقاً وعملاً وانضباطاً وعطاء وفداء، وقد عرفت هذه المؤسسة في أمريكا عن قرب عبر الجيرة لا المهنة، فكانت الصورة على حقيقتها، وهي للأمانة مشرقة مشرّفة.


لفت انتباهي حرص عائلات العسكريين على العمل التطوعي والخدمة العامة، وهي من القيم الأمريكية الوطنية، التي لا ينقسم حولها الجمهوريون والديمقراطيون، ومرحلة الإعداد لهذه الثقافة تبدأ من البيت قبل المسجد أو الكنيسة أو الكنيس، فيحرص الجيران على الجانب المستدير غير النافذ من الحي ويعرف بـ«كولديساك» على مساعدة كبار السن والمرضى في العناية بالحديقة الأمامية للمنزل مثلاً، فيما يشرف جيران الحي على مفترقات الطرق الداخلية فيه على نصب بسطة «الليموناضة» على إحدى زواياها لتكتمل العملية التربوية بجناح آخر للخدمة، وهو الإنتاج والاعتماد على الذات.

عادة ما يتم التسعير على نحو رمزي، لا أحد يدفع ربع دولار في كوب عصير ليمون مثلج ومحلى، فتنهال الدولارات من الجيران على أبناء الجيران تشجيعاً وتحفيزاً لهم على المزيد من بناء الفرد الواعي لمفهوم الخدمة بشقيها المجاني ومدفوع الأجر.

بعضنا كأهالٍ كان يراقب فتوات الحارة (فتوّة لا فهلوة ولا شقاوة فيها) من وراء النوافذ أو من على الشرفات الأمامية، وبعضنا الآخر كان يحرص على مزيد من الرعاية عن قرب بالجلوس على مسافة مناسبة خلف أبناء الحارة (بنات وبنين) بما يمنحهم خصوصية الحديث والمزاح بلا حرج ولا يخرجهم عن دائرة الحماية إن لزم الأمر.

يكبر أطفالنا، فيصيرون شباباً ويتعلمون أحد أهم دروس الحياة وهو: إن منحتك الحياة مذاقاً حامضاً (تحديات، مشكلات ومآسي) لا تخف ولا تحزن ولا تيأس بل اصنع منها ليموناضة!