الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

انعدام الوجدان.. لا انعدام الوجود

«انعدام الوجدان لا يعني انعدام الوجود»، قاعدة من قواعد الفكر الإسلامي استقرَّت في وعي المسلمين على مدى أكثر من ألف عام.. تقول هذه القاعدة: إن كراهية الشيء وعدم وجود عاطفة إيجابية تجاهه لا يعني، بأيِّ حال من الأحوال، أنه غير موجود، فقد تكره شيئاً كرهاً شديداً، ويزعجك إلى حد الانفجار بمجرد تخيُّل أنه موجود، ولكن كل هذه المشاعر السلبية لا تعني أبداً أنه غير موجود في الواقع، فقد يكون موجوداً أمام عينيك، أو في داخل جسدك.

هذه القاعدة تفترض وجود مجتمع عقلاني سَوِيّ، يفكر أفراده بصورة رشيد، أو على الأقل بصورة واقعية، أو في الحد الأدنى أن يكون أفراد المجتمع أسوياء عقلياً ونفسياً، وليسوا من المأزومين، أو المغيَّبين عقلياً، وهذه حالة أظن أن المجتمعات العربية في الغالب أقرب إلى الحالة السلبية، حيث إنه ينتشر فيها أفراد مغيَّبون عقلياً نتيجةً لحالة الفقر الشديد، وانعدام الأمل في تغيير حقيقي ينقل حياتهم من حال إلى حال أفضل، ناهيك عن انتشار الأُمِّية التعليمية والأُمِّية الثقافية.

تاريخ طويل من ثقافة تنفي وجود، أو تنفي قيمة، أو تنفي نجاح أي شيء أو تنفي فعلاً أو إنساناً، طالما ليس له في القلب مكان، وليس لدينا عاطفة تجاهه.


هنا ندرك عمق النص القرآني الرائع الذي جاء ليضع حداً لهذه العقلية العاطفية، التي تتحكم فيها الأمنيات، وتنفي وجود الواقع الذي لا تحبه، حتى إن كان وجوده سيؤدي إلى إلحاق الضرر بها، أو إنهاء وجودها.


لقد جاء القرآن الكريم ليدرّب المؤمن به على الإدراك الواقعي السليم، ليس فقط من خلال الاعتراف بوجود ما لا نحبه، بل بتقديره حق قدره، والاعتراف بمزاياه، وليس فقط التركيز على عيوبه، فكان الأمر القرآني: (يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا كونوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالقِسْطِ وَلاَ يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قوم على أَلَّا تَعْدِلُوا اعدِلُوا هو أقرب للتقوى واتقوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعملون) (سورة المائدة ـ آية: 8).

هـذا أمر إلهي بعدم الاستسلام لمشاعر الكراهية لمن لا نحب، وترك هذه المشاعر تمنعنا من العدل معه، وإعطائه حقه، لذلك كان الأمر القرآني الحاسم (اعدِلُوا هو أقرب للتقوى).

العقلية الواقعية العادلة هي التي تصنع مجتمعاً قادراً على مواجهة تحديات الزمان والمكان، والتعامل معها بفاعلية تعالجها بصورة جذرية، لأن عقلية إنكار الوجود لانعدام الوجدان سوف تقود المجتمع إلى السقوط والتصادم مع حقائق لم يكن مستعداً للتعامل الإيجابي الفعال معها.