الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

الجهل.. بسيط ومركب

الطبيب «توما» ورث المهنة عن أبيه الذي كان حكيماً ماهراً، وللأسف لم يكن الابن في مهارة أبيه، ولكن احتفظ بلقب الحكيم رغم جهله، وقلة علمه، وانعدام حكمته، إلى درجة أن حماره ثار عليه، وطالب بأن يركبه، لا أن يكون ركوبته.

قال حمار الحكيم توما: لو أنصف الدهر كنت أركب، فأنا جاهل بسيط، وراكبي جاهل مركب.

عالم وسائل التواصل الاجتماعي في هذه الأيام يعيش حالة مثل حالة الحكيم توما، فكل شيء فيه يؤكد وجود حالة مستقرة من الجهل، بل إن هناك تقدماً في مضمار الجهل، وتصاعدنا على درجاته، وانتقالاً من الجهل البسيط إلى الجهل المركب، وأصبح أكثر الجهلاء هم صناع الفكر والثقافة، وقادة الرأي.


يقول إمام الحرمين «أبوالمعالي الجويني» المتوفى 480 هجرية، في كتابه المختصر جداً «الورقات في أصول الفقه»: «الجهل البسيط هو إدراك الشيء على غير حقيقته، والجهل المركب هو إدراك الشيء على غير حقيقته، مع اعتقاد المدرِك أنه يدركه على حقيقته»، فالجهل البسيط، يمكن علاجه، والتخلص من تبعاته، ولكن الجهل المركب، مرض عضال، لأن الجهل في هذه الحالة يتحول إلى عقيدة، يستميت صاحبها في الدفاع عنها.


لقد عانت مجتمعاتنا لقرون من هذا المرض، وما تزال تعاني حتى اليوم مع انتشار وسائل الإعلام الجماهيري، والتواصل الاجتماعي التي تحولت إلى أدوات ناجحة في نشر الجهل المركب بين الناس، فكل من ملك حساباً على فيسبوك، أو تويتر أصبح عالماً وخبيراً ومصدراً للمعرفة، وكل من استطاع الفهم يظن نفسه أنه مفكر كبير، يجب على الآخرين التعلم منه واتباعه، حالة مأساوية من الجهل المركب، تتمدد، وتتسع، وتنتشر بين الناس.

في ظل هذه الحالة لا تكاد توجد قضية واحدة في فضاء الإنترنت واضحة، وفيها حقائق واقعية، كل شيء أصبح فيه رأيان، أو ثلاثة، لأن كل شيء أصبح خاضعاً للتذوق الشخصي، ولا يستطيع الإنسان أن يقول قولاً محدداً في أي شيء، الأبيض عند البعض هو في الوقت نفسه أسود عند آخرين، ولا يوجد معيار محايد، أو رأي مرجعي يفصل بين المختلفين، الكل علماء، والكل فقهاء، والكل سياسيون، أو اقتصاديون.. إلخ، لا شيء حقيقي على الإطلاق، كلها آراء شخصية.

لقد افتقدنا نقطة الثبات المرجعية، وفي ظل كل ذلك يصبح كل شيء مباحاً، وكل شيء غير مباح، المهم أنت مع أي جانب تقف.