الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

صلاحية هويتك.. وذاكرة تاريخك

هل أتى علينا حين من الدهر غُيبت فيه قيم كانت حليفة أعرافنا وتراثنا المجتمعي العريق، فكان للكبير كلمته، وللعالم مكانته، وللغائب محبته حتى يعود.. وفي بضع سنوات عجاف، هبت رياح عاتية حملت سموماً فكرية عصفت بالعقول البشرية، أحالت القيم الراسخة إلى تقاليد غائبة متقادمة، وجعلت مقامك بقدر ما تحقق من مجد لحظي، وإبداع زائف أمام شاشات النفاق، لتتأرجح قيمة تاريخك صعوداً ونزولاً مثل سهم التداول باليوم الواحد، وتحدد صلاحيتك مثل وجبة سريعة قيمتها ساعات.

سألني أحد الذين لُدغوا بثعبان العقوق، وقرر الاكتفاء من الرحلة بالإياب في انتظار تذكرة الغياب الأبدي، التي بات يرتقبها بمقلٍ تملؤها العبرات والزهد فيما هو آتٍ، سألني والألم يعتصره: عجزت أن أفهم عقوق الأقربين وقسوة المحيطين، راجعت سفر رسالتي ودفاتر حياتي، فوجدتني تناسيت في رحلتي آمالي وأحلامي ليكون للآخر من جهدي وعقلي ومالي ما استطعت أن أجود بكل إيثار وإنكار للذات، واليوم أقف في عراء العقوق وصقيع الجحود ليتصدر اسمي قائمة النسيان والإهمال حتى يعجز اللسان عن وصف ما آلت إليه الحال!

حاولت أن أهون عليه سلوك بشر الإصدار الجديد، ونسخة الإنسان في زمن الجوائح والفتن، وأنه لن يغير العالم من حوله لأن ثنائية «الحقوق والعقوق» هي قصة الأمس واليوم والغد، ولكنها تتصدر المشهد الآن، مؤكداً له: ارحل بذاتك لميناء سلام، بعيداً عن خيبات التوقعات، لا تطالب ولا تعاتب، واجعل من صمتك أقوى صرخة في عالم بلا معالم أشبه بحديث الطرشان، قد تكون صديقي أخطأت بانتظار الجزاء وأجر العطاء من البشر وليس من رب البشر.


قاطعني محتداً متسائلاً عن منطق الاكتفاء والاستغناء، والركون لراحة البال وقائمة الإهمال.


قلت يا رفيق الدرب: لا يمكن للطائر الجريح التحليق، وكلما أثقلتك همومك، وأوجعتك الرحلة الأرضية، ارتقِ نحو المراتب السماوية، هناك المرتجى والراحة والملتقى.

ما أقسى أن يأتيك من يشتكي انتهاء صلاحية هويته وطمس صفحات تاريخه من القريب قبل الغريب، ليمضي فيما تبقى وهو يصارع كل إصباح بتقديم طلب جديد لإثبات وجوده وحضوره، ودفع رسوم تجديد هويته وتحديث تاريخه.

إلى المطمئنة نفوسهم والراقية عقولهم، المرابطين عند ثغور الاكتفاء والاستغناء: العالم بات يقف عند باب حكمتكم ليستلهم منكم الدرس الأخير: لا تنتظر عدالة أهل الأرض وارتقِ ما استطعت.