الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

في التناسي.. حياة

وحده الإنسان من يملك قلبه، فإمّا يسجنه في دهاليز الماضي، أو ينطلق به في رحاب الحاضر وآفاق المستقبل، فمن البديهيّ أن يتضاعف منسوب الألم إن مكثنا تحت غيوم متراكمة نجتر خيبات الأمس لتمطرنا هموماً وغموماً، ومن البديهيّ أن تقبع في أسر ماضيك إن لم تحاول استحضار ذكرى بيضاء تكسر سواد صفحات كتاب حياتك، فمعية الأحزان في نهر الذكريات الآسن ظلم لنفسك أقسى وأمرّ من ظلم الآخرين لك.

جمعني حديث عابر بصديق قديم تتطاير منه صنوف الحزن والحسرة واللوم، استشعرت معه أنه صنع من آلام الماضي تمثالاً ظل يقدم له الطقوس كل لحظة، سألته يا صديقي، عرفتك قبل ربع قرن من الزّمن منطلقاً شغوفاً حالماً كطفل ناضج يرتع في أرض رحبة مزهرة، فما بالك اليوم تهيم على وجهك وكأنك لم تنل من رحلة العمر سوى أشواكها؟

فاجأني برد ألجمني، وقد فتح غرف ماضيه المغلقة على حرائق بالية وحكايات سوداوية، عن زميل الدراسة المغرور المهووس بنرجسيته، المتفاخر عليه اليوم بعلمه ومنصبه، المتفضل عليه في كل عيد برسالة يتيمة عقيمة، وعن فلان الذي طالما تفوّق عليه علماً، والآن يتربع في منصب قيادي متناسياً فضله عليه.


استوقفته قبل أن يسهب في اجترار المزيد من قصص الآلام قائلاً: الآن أدركت لماذا عافيتك معتلة، ووجهك شاحب، فقد طويت الأيام وكاهلك محمّل بالأثقال، ونسيت أن الماضي منصة للقفز لا أريكة للاسترخاء، وكان التظاهر بالنسيان يكفي لطمس معالم الأمس الأليم، فالماضي يتوارى كالمجرم الهارب من الناس، فلماذا تبعثه كل حين؟


ما أصعب أن يتوه الإنسان في سراديب الذكريات تتخبطه سيناريوهات القاضي والجلّاد، ويتناسى أن الكون فسيح والحياة أرحب، وأن النصف الممتلئ من الكأس كان ليمنحه أكثر مما فقد، وأن الماضي الضحل لا يصنع الغد.

الدنيا أمس عشناه ولن يعود، ويوم نعيشه ولن يدوم، وغد يدبره الحي القيوم، فتسامح وتناسَ، وارتقِ، وتذكر أن لذاتك عليك حقّاً، فلا تجلدها بسياط ألم الذكرى، دع الماضي بكل ما فيه فقد راح، وتأهّب للقادم من الأيام بالأمل والأفراح.

حتما سيبقى شيء من الماضي عالقاً بنا، تعجز يد النسيان أن تطاله، لكن العاقل لا يورث جسده العلل بذاكرة تغلي فوق مرجل المآسي والخيبات بدل أن تفوح بعبق الأماني والإنجازات، فتناسوا تصحّوا.