الثلاثاء - 16 أبريل 2024
الثلاثاء - 16 أبريل 2024

أبي.. و«غابة الاحتياج»

توفي والدي عام 2003، وحيداً في بيته، لم يتسنّ له أن يترك وصية لأحد منا نحن -أبناءه الخمسة- أو يوصي أحداً من إخوتي بي.. اختار أن يعيش وحيداً، وبالرغم أني اعتدت حياته الجديدة، إلا أن وجوده كان يشعرني بالأمان.. كنت الابنة المدللة، والمفضلة عنده، ولي منه كلّه، وما فاض لبقية أخوتي!.. لم يكن أباً مثالياً، ولكنه كان صديقي قبل أن يكون أبي، الشيفرة التي بيننا لا يمكن أن يعرف سرها إلا الله، رحيله المفاجئ كسر شيئاً بداخلي، ذلك الظل الضخم الذي كان يتراءى لي كلما أقبل عليّ أو أدبر، هيبة الأب بكل جلاله، وسطوته، وحنانه!.

بالرغم من قسوته الأبوية، وتحفظي على كثير من قراراته، إلا أنه كان هناك شيء في داخلي يشفع له غالباً، لأني أعلم حقيقة واحدة، بأنة يحبني جداً، ويفتخر بي، من فرحته، ببريق التماعة محجر عينيه كلما نظر لي!

رحل، وعلى مدى أسبوع، أو أكثر، كنت أستشعر روحه تطوف حولي أنا فقط، وكأنه يُربت على كتفي ويقول: «ابنتي، سامحيني! رحلت، ولم أودعك، ولم أستودعك وصاياي.. لم أضمّك كما أحب».

فقط، حينما نكبر، نكتشف كم نشبه آباءنا، في طباعهم التي كنا نتذمر منها، أو حينما تتجلى فينا بوجهيها، وبكل مزاجها وربما أكثر حدة، ولكننا لا نعترف بأننا نرث جيناتهم، إلى أن نعيد أخطاءهم دون أن نشعر ولا يحاسبنا أحد!

لا أدري كيف يعتاد البشر غياب أحبتهم؟ كيف يؤثثون ذلك الفراغ الذي كانوا يملؤونه بوجودهم؟ وكيف يحتالون على حنينهم، أو حاجتهم لمحادثتهم حينما ينطفئ كل حيّ في مآقيهم إلا هم؟!

بعد مضي 17 عاماً على رحيله، أستذكره، اليوم، وبإلحاح بالغ، ولا أدري لمَ تعنّ على خاطري رغبة شديدة لسماع صوته؟ ولمَ تراودني ذاكرة مشتركة بيني وبينه بكل تفاصيلها، وبكثافة لم أستطع الإفلات منها حتى في مناماتي؟!

أبي: احتياجي لك استحال غابة تكاد أن تبتلعني على اتساعها، بقدر احتياجي لكتف تميل عليّ ولا تميل عني.. لصدر أبثه وجعي بلا تردد، دون أن يهزأ، ويفرح بي!