الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

العالم.. وثورة المجتمعات

قليل من القراءات المختصة في حركة العالم والمآلات الممكنة التي سيؤول إليها، لم تنكب على ما نطلق عليه في هذه المقالة «ثورة المجتمعات المقبلة».. أغلب القراءات انطلقت من الصدمة التي أحدثتها جائحة كوفيد-19، ووقفت في تحليلها واستشرافها لما سيكون عليه العالم غداً، عند تجليات الأزمة وتداعياتها على الاقتصاد والتجارة والعلاقات الاجتماعية.

لا تخرج هذه القراءات عن كونها كمية رقمية لا تصل إلى التأويل النوعي الذي يقترب من الحقيقة، التي تنسج مسالكها السرية في عمق الحصائل الكمية، وكثافة مؤشرات الانفلات العام التي بدأت تظهر في المجتمعات، بدرجات متفاوتة، خاصة العريقة منها في الديمقراطية كما هي حال المجتمع الأمريكي والفرنسي.. قد تكون عناصر هذه الحقيقة مفكّكة هنا وهناك، ولكنها مرتبطة الدلالة، تؤكد على أن شيئاً ما يعتمل في رحم مجتمعات العالم، هذا الشيء هو «ثورة المجتمعات»، ونهاية ما أُطلق عليه بالعقد الاجتماعي والعقد الديمقراطي ما بين الدولة والمجتمع، ليس لأن اللّايقين الذي توطّد قبل كوفيد-19 واستفحل خلاله هو أساس انصرام عقد هذه الثقة فقط، ولكن لأن معنى الدولة نفسه لم يستوعب التغيّرات الطارئة في المجتمع الذي لم تعد تمثلاته لها ورغبته في نوعية العيش هي نفسها كما في السابق.

نتيجة لسوء فهم الدولة لهذه التغيّرات القائمة على «الذّاتانية الفردية» المنحازة إلى المصلحة المتجدّدة وليس إلى شكل الدولة وأدوارها، أصبح تأثير الدولة معطلاً ولم يعد شعارها في التنمية والديمقراطية ذا نفع، لأنها عجزت عن الإيفاء بوعودها.


لمّا نقرأ نوعياً طبيعة الهزّات الاجتماعية الكبرى وأنواعها التي عرفتها المجتمعات «المتحضّرة» وما يشبهها، خلال السنتين المنصرمتين، وطبيعة الطلب الاجتماعي والاقتصادي للأفراد الذي عبّرت عنه الوتائر المتصاعدة للاحتجاجات في مختلف أنحاء العالم، سنلحظ أن هذه الظاهرة أصبحت أقوى وأخطر على الدولة من التهديدات الخارجية التي تعبّر عنها الأزمات الدبلوماسية الجيوستراتيجية والجيوسياسية أو حتى الحروب الثنائية التي تحدث هنا وهناك.


بمعنى أن التوقّع باندلاع حرب عالمية ثالثة كما ذهبت إليه كثير من التحاليل، يبقى ضعيفاً أمام توقّع انفجار ثورات من داخل المجتمعات، ناسفة جميع التخمينات والخطط التي تصوغها الدولة السابحة في فلك الليبرالية المتوحّشة أو الموالية لها.

إننا نشهد من داخل مجتمعاتنا بروز وعي مضاد ومتمرّد، بدأ يتشكل خارج مؤسسات الدّولة ولواحقها، وعي يشعر بالحرمان ولا يؤمن إلا بالفرد من حيث هو قيمة باحثة عن إشباع أفق انتظاره، يحدث هذا التشكل في فضاءات مواقع التواصل الاجتماعي مقابل ضمور وتراجع أدوار المؤسسات الإيديولوجية للدولة كالمدرسة والجامعة والتنظيمات الحزبية والجمعوية والثقافية.

إن هذا الوعي الصاعد يؤسس لنزعة رفضوية لا تجعل من مفهوم الدولة والمواطنة مجالاً للسلم والاستقرار، بل مجالاً، حسب تمثّلاته، للقهر وشرعنة الحرمان تحت أسماء مخاتلة ومخادعة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، لذلك كلّه، فالعالم مقبل على «ثورة المجتمعات» لها ما بعدها.