السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

ذاكرة البيوت

مهما تنّقل الإنسان يبقى حنينه لبيته الأول، البيت الذي يختزل جل ذاكرته، وسنين عمره، وإن كان لم تتخطّ عتبته غير بضعة أفراح بقدر كف اليد، فأذكر إلحاح والدة صديقة مقربة، وبكاءها، في رغبة شديدة منها، للسفر إلى بغداد، إبّان سقوطها، ودخول الفلول الإرهابية، وانتشار الميليشيات المسلحة في البلاد، وتتابُع عمليات التفجير، والقتل، والسلب، ونهب البيوت الخالية من سكانها أو المأهولة وفي وضح النهار.. كانت تحكي كيف وجدت جارها الطيب الطبيب، مقتولاً، ومعلقاً، بمشجب على جدار بيته، لإثارة الرعب في نفوس سكان الحي، رحل السكان، وبقيت البيوت تبكي فراق أهلها.

وبالرغم من كل هذا الرعب، لم تستطع صديقتي ثني والدتها عن الرحيل، للاطمئنان على سلامة بيتها، وكل مقتنياتها، التي جمعتها على مدار ثلاثين عاماً وتزيد، أيام صفو الزمان، وانبساط النفس، واتساع حدقة الحياة، ذهبت، لتجد البيت «منفوضاً» عن بكرة أبيه من كل ما جمعته في رحلة العمر.. حمدت الله وشكرته على أن البيت بقي!

هاتفت ابنتها صائحة في وجهها: «بيتي.. ما أعوفه، تسمعين؟!».

الأم، لربما لم تشعر بكيانها في بيت ابنتها، هنا، بالرغم، من توفر كل سبل الراحة والأمان، والعناية، التي توليها إليها الابنة وزوجها، ولكن، بعد شهرين، وبلا إخطار، قامت ببيع البيت وعادت أدراجها، بعد أن فرغ الحي من ساكنيه، واختفت ملامحه، مثلما اختفت ملامح العراق منذ ذلك السقوط!

الفراغ موحش، ذلك الاتساع الذي يشي بفراغه من كل ما يمكن أن يؤثثه، ويجعله مكاناً قابلاً للسكن.. ملاذاً للسكينة، موحش، حينما يفرغ من الحب، ومن دفء يُغذي زواياه، فلا يعود ثمة معنى أو قيمة للوحة، أو المزهرية الكريستال، أو الأريكة والوسائد الوثيرة، أوالسجادة الثمينة، حينما يأكل البرد جدران البيوت، ولا صدى غير صدى صوتك ووجعك، فلا يعدو ذلك الاتساع أن يكون سوى مقبرة.. أو كهف مظلم، يحث على البكاء والأسف معاً، على مَن جمع كل هذا، ولم يستطع أن«يجمع» أفئدة حوله، لتصبح فكرة الرحيل عن هذه «الوحشة» غاية، ومطلباً!.. يقولون: «البيوت الصغيرة، جدرانها تحْنو على ساكنيها!».