الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

على أطلال الذاكرة

وأنا أطل على المتوسط من مدينة نيس في الريفيرا الفرنسية، حملت موجات البحر آهاتي معها في سفرها الذي لا يتوقف وهو يتجه إلى الضفة الأخرى من اللازورد، أتساءل عن المدن التي اغتربت وهي لم تغادر مكانها، تلك التي هجرها أحبتها غصباً لا طوعاً، والتي أغلقت أبوابها وعلت أسوارها، في حجر قصري شمل كل العالم بسبب جائحة كورونا التي قلبت الموازين.

قدر هذه المدن التي عشقناها وأدمنا رفقتها في أوقات متعددة من السنة أن نشتاق إليها كثيراً ونشتاقنا فيها، ونبكي على أطلال ذكرياتها، حتى بعدما قصدت إحداها لظرف طارئ لم أنجُ من الحظر وعدم الخروج من مقر إقامتي إلا لشراء حاجات الطعام الضرورية، وممارسة المشي في مساحة صغيرة حول المكان.

لقد شمل الإقفال كل شيء إلا محال بيع المواد الغذائية والأمور الضرورية، المقاهي التي لها نكهة الحياة واللقاءات أقفلت، والأرصفة باردة وغريبة، المطاعم بكل طقوسها، أطباقها الغريبة أحياناً، ديكوراتها، الأنفاس التي تحتبس داخلها في فصل شتائي بارد، والمارة الهاربون إلى منازلهم بعد أن غدت ملامح المكان غريبة بعد إقفالها.

وأنا غريبة في مدينة أوروبية أتساءل عن المدن المجاورة التي كانت تتصدر السياحة العالمية كيف هي روما الآن؟ مدرج الكولوسيوم؟ أصبح مسرحاً فارغاً لمسرحية كورونا التي تلعب دور البطل، مقاهي نافونا، ثم سانت شابيل والكونكورد في باريس مدينة النور، ومتحف الكوت في محطة سكة القطار، حيث تعد تفاصيلها رئة للحياة والقادمين إليها من أرجاء المعمورة، ثم جنيفا وبحيرتها التي تترامى في مدن كثيرة تجمعها كرابطة العقد، لو كارتييه، بيردي كوفي شوب، لو كافيه دي بان، فيينا ولندن العرب، فرانكفورت، وكل المدن التي على مرمى البصر بينما تقطعت الطرق بينها في قارة واحدة كانت تشكل اتحاداً مذهلاً، حيث يمكن للزائر في بعض مدنها أن تكون قدمه في دولة، والأخرى بدولة مجاورة.

الآن يمكننا أن نزور هذه المدن على خريطة صماء لنشير بالسبابة إلى المعالم التي نشتاق إليها، أو في ذاكرة الجوال، أو ذاكرتنا التي لم تهترئ بالكامل، غير أننا في وقوفنا على أطلال الذاكرة لن تسعفنا قريحتنا بمعلقات تشبه تلك التي دونت الأمكنة بين أبياتها.

وعلى قول الفنان المحبوب محمد عبده، «الأماكن كلها مشتاقة لك»، وسنشتاق ونشتاق صحبة مقهى، أو الوقوف في طابور طويل لقطار يقل راكبيه لمحطات تنتظر.