أعادت المواجهة في كأس سوبر الخليج العربي بين فريقي شباب الأهلي والشارقة قضية المدرب المواطن إلى الواجهة، فقد قاد الفريقين مدربان مواطنان ناجحان هما مهدي علي وعبدالعزيز العنبري، وقيادة هذين المدربين لفريقين عريقين يوحي بأن المدرب المواطن يمتلك المؤهلات التي تساعده على منافسة المدرب الأجنبي وتحقيق النجاح والإنجاز.الحقيقة أن أي مدرب لا يستطيع تحقيق الأهداف لوحده، لأن كرة القدم لعبة جماعية، والمدرب المواطن يحتاج إلى بيئة عمل مناسبة ودعم ومؤازرة، فضلاً عن الثقة بمؤهلاته وقدراته على صناعة الفارق.وبعد الآن وبعد أن استهلكنا عبارة «مدرب مواطن» أرى من الضروري أن نحذف من قواميسنا وصف «مواطن»، ونكتفي بمفردة «مدرب» لأن التدريب ليس له جنسية كما الإبداع، وهذا يعني أن نتعامل مع المدرب بصفته الاحترافية وليس لجنسيته، وهنا يتحقق أمر مهم هو أن التعاقد مع المدرب يتم لأسباب مهنية وفنية وليس لأسباب عاطفية أو لأغراض المجاملات.في بعض الأحيان تُفسّر عبارة «مدرب مواطن» بطريقة سلبية، أي أنه أقل مستوى من الأجنبي، وهذا ليس صحيحاً، لذا علينا أن نكافئ ونحاسب المدرب على عمله وليس على جنسيته.على كل مدرب يسعى للتميز والنجاح أن يطور نفسه ويكافح من أجل الحصول على فرصته، وعليه أن يستفيد من تجاربه خلال فترات العمل مع مدربين آخرين، وكذلك عليه أن يؤسس أسلوبه الخاص من خلال التحليل والقراءات النقدية ومتابعة مباريات المنتخبات في مختلف البطولات.يمكن أن تقوم المؤسسات الرياضية الرسمية في الدولة بتأهيل المدرب من خلال زجه في تجارب كروية راقية، مثل منحه فرصة للعمل مع أندية عريقة خارج القارة الآسيوية والاستفادة من اتفاقيات التعاون الموقعة بين اتحاد الكرة والاتحادات الأخرى، وكذلك الاتفاقيات التي أبرمتها المجالس الرياضية.كفاءة المدرب لا تتعلق بجنسيته، بل بتجاربه وفكره وأسلوبه ومدرسته، وعليه فإن الكفاءة تفرض نفسها في الآخر في عالم التدريب وليس الجنسية.
النُّضْج الفكري.. وتقبّل الآخر
منذ فجر البشرية، عمل الإنسان ـ و لا يزال ـ على اكتساب المعرفة، واكتشافها، وتداول تلك المعرفة التي تجعله في توافق تام مع الآخر، وتقبل وجوده واختلافه عنا كمفهومٍ للتعايش وفق النضج الفكري.
مع تزايد المعارف، وتطور العلوم، وتقدم فكر الإنسان وتطوره، شكّلت المعارف الإنسانية المتنوعة والمكتسبة لمختلف شعوب العالم، واكتشافهم لوجود بعضهم البعض في الجانب الآخر من الأرض، كم شكّلت أيضاً تقدماً فكرياً مذهلاً، وعملت على تكوين إرثٍ معرفي عظيم، أدى إلى تكوين قيم جديدة تستكشف المكان والنفس، وتقبل الآخر عبر تطور الأفكار والوصول إلى مرحلة ما يسمى بالنضج الفكري، والذي يعني الوصول إلى مستوى معين من الفكر، عبر التحليل والتعمق، ومعرفة أساسيات العلوم والمعارف واكتساب العلم.
هذا النضج الفكري، والتعامل مع الأشياء بدرجة متساوية من القياسات العقلية البحتة، بعيداً عن التعصب للنفس، عمل على تطوير معارف البشر وسلوكهم، وتقديم النموذج الجيّد لما تصل إليه نتائج القبول بالآخر والتفاعل مع وجوده وقيمه وإن اختلفت عنا.
ومع تطور الحياة وتراكم المعارف والتعليم الممنهج، انتشر التعارف بين الناس، وصار البشر يتواجدون في المكان نفسه وهم مختلفون كل الاختلاف، وبالتالي أصبح أمرُ تقبل الآخر، والاعتراف بما يحمله من ثقافة وعاداتٍ وسلوكيات تختلف عمّا ألِفناهُ وتعارفنا عليه في حياتنا، هو مقياس النضج الفكري الذي توافق عليه أهل العلم والثقافة في العالم على أنه القاسم المشترك، الذي يجمع البشرية، ويعلنُ أننا وصلنا مرحلة متقدمة من الفكر.
وفي المعرفة يجب أن يشير ويُعمّق تفاعل المعارف مع السلوك الشخصي ليُخرج لنا سلوكاً جديداً نرضاهُ نحن والآخر من حولنا، ويحمل قيم تقبل أفكار الآخرين، واختلافهم عنا، وتحترم كل ذلك، بما يملكونه من معارفهم الأخرى، وما يحملونه من أفكار تمثّل لنا هي الأخرى كنزاً معرفياً عميقاً، وعلاماتٍ إرشادية تعيننا على معرفة أنفسنا، وأهمية ما يجب عليه أن يكون تقبل الآخر، ليكون بذلك تمامُ المعرفة الإنسانية وصدق العشيرة، وتملك الفكر والعلم الصحيح، مقروناً بما يحمله الآخرون من قيمٍ تعكسُ القبول العقلي المنطقي منا ومنهم في تجربةٍ إنسانيةٍ تبادلية كبيرة، تقدم المفيد للبشرية.
بلا شك يقفُ النضج الفكري كأحد الأدلة الموثّقة، والعلامات الفارقة لتقدم الإنسان فكرياً، وفق الشروط السليمة لتلقي العلم واستخدامه للتواصل، وتقبُّل الآخر الذي يقاسمنا الحياة، ليقبلنا هو بكل حبٍ ومودةٍ.