الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

عصر المُدعين

ستجدهم في كل مكان، ستجلس معهم دائماً، لن تصدق ما تراه وتسمعه أول الأمر، ثم ستعتاد عليه وستتعلم كيف تتأمله أو تتجاهله، الأدعياء صاروا يشكلون أكثر من نصف المحيطين بنا، سيتكلمون عن أنفسهم وكأنهم يتكلمون عن أشخاص آخرين، وقد ينقل عنهم الآخرون أقاويل وقصصاً لا تمتُّ بصلة لهم، ولكنهم يمتلكون قدرة نافذة على تثبيت المزاعم التي يروجونها عن أنفسهم وكأنها حقائق.

بعض الذين حولنا يشنّفون آذاننا في الحديث عن ذواتهم المتعالية، وشخصهم الطيب، وروحهم المتعالية وقلبهم المتسامح، في مقابل الآخرين الأشرار الذين يؤذونهم، ويلوكون سيرهم النقية بألسنتهم، في الوقت ذاته، تكون أنت على علم بتفاصيل سيرتهم، وإيذائهم الدائم للآخرين، وانتهازيتهم، قصصهم دائماً مبتورة، تتميز بفعلهم المستتر، وبدورهم الناقص في الرواية، فهم لا يفعلون ما يثير الآخرين ويدفعهم للاختلاف معهم، وجوههم تمتلك قدرة ممتازة على التمثيل، وأداؤهم مقنع، لذلك ينطوي على الكثيرين الذين قد يدفعون ثمن الخديعة الأولى.

مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وامتلاك الجميع القدرة على التعبير العلني عن الذات، لن تعدم استفزازهم وأنت تتابع منشوراتهم التي تفيض بالحكمة، الآيات القرآنية الحكيمة لا تغيب عن منشوراتهم، أبيات الحكمة، والعبارات الإنسانية تملأ حساباتهم، مقاطع الفيديو المعبرة والأغاني الدالة يتم انتقاؤها بعناية.


هؤلاء يمتلكون القدرة على المزج بين شخصيتين، شخصيتهم الحقيقية التي لا تخلو من المساوئ وأحياناً تفيض بها، وشخصياتهم المزيفة التي يقدمونها للواجهة حين يحتاجون إليها، وتعمل الشخصية الأصلية على تدعيم ورفع الشخصية المزيفة بما تمتلكه من إمكانات التزييف والتزلف والجرأة على قول كل ما هو غير حقيقي، ما يميز الأدعياء عن غيرهم أن نسبة الخجل في دمائهم منخفضة جداً، وأن لديهم جرأة عالية وقوة وثبات لن تجدها في أصحاب الحقائق، كما أنهم مؤمنون بأنفسهم ويمتلكون ثقة كبيرة بالذات، وتصديقاً للنفس كأي صاحب قضية.


هذا المجهود الذي يبذله الأدعياء ليس عبثاً، وليس شَغلاً لوقت الفراغ، إنه قناعة وإدراك لمعطيات الواقع من وجهة نظرهم، وأسلوب تعامل مع الحياة من زاويتهم هم، فهم - حسب إدراكهم، وقد يكون هذا صحيحاً - يرون أن الحياة لا تسير بشكل مباشر، وليست مستقيمة، ومن يُرِد أن يحقق أهدافه فعليه أن يتعامل مع كل الأمور بازدواجية، وأن يطرح أكثر من وجه وأكثر من شخصية ليمتحن أياً منها هي المناسبة لتحقيق الهدف، وأغلبهم فعلاً يحقق أهدافه كما خطط لها، لذلك هم أسرع الناس قدرة على تبديل أحوالهم ومواقعهم، تماماً كما يبدلون وجوههم.