الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

مدن لا تشبه نفسها

من النافذة ذاتها، حيث تعودت أن أقضي ليلتي الأخيرة في باريس بالمكان نفسه القريب من المطار، كنت أراقب أنفاس المدينة تتصاعد من فوهات المباني القديمة، وتستيقظ مع شمس فبراير الباردة، وهديل الحمام ينذر بصباح شتائي كسول.

كانت ليلة صعبة قضيتها بين أضغاث أحلامي وأحلام يقظة موجعة، فلا المكان يشبه ذاته ولا المدينة تشبه تلك التي تغنَّى بها الشعراء، وقصدها السياح من كل فج، وعشقتها الموسيقى.

الغرف صامتة بلا خدمة، ولا نادل يطرق بابها ليحضر لك طاولة طعام أو قهوة لاتيه مع دوائر الماكرون ذات النكهات المتعددة، والتي تشتهر بها باريس، اليوم يكتفي النادل بوضع صينية لطعام في أطباق بلاستيكية مغلفة باردة ومعدة مسبقاً، لذا أتذمَّرُ بحرقة، وأبلع غيظي وحزني وذكريات مرة ألُوكها مع واقع صعب، فرضه فيروس لا يرى بالعين المجردة، وتتبرأ منه الدول التي تتهم كل منها الأخرى أنها مصدره.


المكان لا يشبه تفاصيل الحياة التي كانت يوماً ما تمتلئ بالناس وحكاياتهم وخطاهم وحركتهم واكتظاظهم، فمحطة القطار خلت من المسافرين بعد غروب الشمس، مقاهيها ومطاعمها والمحال التي تبيع هدايا معلبة سريعة للسياح والمارين بها جميعها مقفلة، لا حارس للمحطة الخاوية، ولا بواب ولا مركز لاستفسارات المسافرين أو في تعبير أصح؛ العابرين لندرتهم، ومكبرات الصوت ما عادت تنادي للرحلة المقبلة، فقد أكل عليها السكون وشرب، والرحلات الجوية لم تستأنف إلا القليل جدّاً منها، وقد خصّصت صالة واحدة لجميع الرحلات التي يستقلها أشخاص ملثمون يحرصون على وجود مسافة آمنة بينهم، وفي داخلهم رعب من الإصابة بكورونا العصر.


مدن أشباح تلك التي أعبرها مثقلة بالأسئلة، كأنني أقف على أطلال مدن كانت، القارة العجوز سرعان ما استسلمت وأعلنت حالة طوارئ مريرة وكأنها الحربان الأولى والثانية.. كثير من الناس فقدوا وظائفهم، وطلبة الجامعات الذين كانوا عصب الحياة ويشغلون وظائف متعددة ليكملوا دراستهم الآن يقفون في طوابير لتلقي مساعدات من الطعام الذي قد يسد رمقهم.

يا ألله.. ما الذي حدث؟ وهل نحن في حلم أم علم؟

ما يحدث يذكرني بأفلام الخيال العلمي التي تابعتها يوماً ما، بكائنات فضائية تغزو الأرض ومركبات ومدن أشباح، فأطراف المدن وأحياء المطارات هناك والفنادق تنبئ بخطْب ما قد يطول، ويبدو لي أكبر من إنفلونزا.

ولما وصلت إلى دار الحي.. دبي، استيقظت من حلم مزعج، حيث تدب الحياة في عصب المدينة التي لا تموت ولا تشيخ.. أدلف مع السائق إلى المدينة التي لا تنطفئ أنوارها دون أن أنزع عن وجهي قناعاً صار من أساسيَّات الحياة، وقد وعدت نفسي بأن أقصد المكتبة صباحاً أنقب في كتب التاريخ عن حكايا قد تكون مماثلة لما نمر به، لتكون عزاء لي في الزمن الصعب، ودافعاً لأجل أن تستمر الحياة، ويصبح ما نمر به ذكرى، وتاريخ نرويه لأحفادنا لاحقاً.