الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الجاحظ والبخل.. والاقتصاد

«كتاب البخلاء» للجاحظ يُعطي صورة صادقة وعميقة للدُّعابة والنُّكتة في عصره، لكن الجاحظ لا يستخدم الدُّعابة والسخرية والبخل لأجل الـمُـتعة والتسلية فقط، وإنما ينفذ من خلالها إلى خَبايا النفس البشرية وخفاياها وغرائزها، وإلى قضايا اقتصادية واجتماعية عميقة، حتى ليمكنُ القول إن كتاب البخلاء ليس كتاب أدب وفنّ فحسبُ، ولكنه أيضاً كتاب في علم النفس والسياسة والاقتصاد.

ففي هذا الكتاب يكشف الجاحظ بُنية الحياة الاجتماعية من خلال التصوير الدقيق لنفسيات البخلاء ووسائل عيشهم وطرق كسبهم وإنفاقهم، ورغباتهم ومواقفهم، ويُجرِي على ألسنتهم وسائل الحِجَاج للبرهنة على رؤاهم ومواقفهم بطريقة منطقية مقبولة عند الناس.

فالبخل لغويّاً نقيض الكرم، والبَخيل نقيض الكريم، أمَّا من الناحية المعنوية، فإن البُخل رذيلة عند العرب المعروفين بالكرم، ومُتنافٍ مع مروءة العربي، وهنا يمكن أن نتساءل: هل أراد الجاحظ، من خلال هذا الكتاب، أن يُعرِّي هذه المظاهر المذمومة للفت الانتباه إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية التي أدَّت إليها في محيط عربي تَتأسَّس المروءة فيه على قِيَم كالكرم والإيثار؟ أم أنه قصد – بأسلوب ظاهرُه الهزَل وباطنُه الجِدُّ – إلى تأصيل وعقلنة الإنفاق وترشيد الموارد، وهي أمور مرغوب فيها لتنمية المال ومواجهة حالات الطوارئ المختلفة؟ أم أن الجاحظ نفسه كان بخيلاً وأراد تأسيس أصول البُخل باعتباره غريزة بشرية مركوزة في الإنسان؟ أم أن غرضه من الكتاب يقتصر على الجوانب الأدبية والفنية فحسب؟


تلك أسئلة طرحها بعض مَن تصدّوا لدراسة «كتاب البخلاء»، وكلٌّ ذهب مذهباً في ذلك، لكني أعتقد أننا نحتاج اليوم إلى قراءة الكتاب قراءةً اقتصادية أيضاً، فالجاحظ يقدِّم نظريات ومبادئ عامة في الادِّخار واستثمار المال يُمكن أن تفيدنا في هذا العصر الذي ساد فيه الاستهلاك والتبذير غير العقلانيين.


فانظر إلى قول سهل بن هارون الذي افتتح به الجاحظ كتابه، فإنَّك واجدٌ فيه مبادئ اقتصادية دقيقة، يقول سهل: «مَن لم يحسب ذَهاب نفقته لم يحسب دخله، ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع الأصل»، فهل هذا إلا نظام محاسبي دقيق للموارد وطرق إنفاقها!

والجاحظ خصَّص أيضاً كتاباً للتجارة سمَّاه (التبصُّر بالتجارة)، شرح فيه مبادئ ونظريات اقتصادية رائدة كقانون العرض والطلب، إذ يقول: «الموجودُ من كل شيء رخيصٌ بوجدانه، غالٍ بفقدانه إذا مسَّت الحاجة إليه».