الخميس - 28 مارس 2024
الخميس - 28 مارس 2024

منصات التواصل... الغياب بلا عتاب

كلما هلَّت الأعياد، انكشف المستور في واقعنا الجديد، ما أن تُطل على مجتمعاتنا سائلاً عن صنيع منصات التواصل الاجتماعي بأواصر المحبة، وصلة الرحِم، وعلاقتنا بأقربائنا وأصدقائنا، وعافية مشاعرنا وسلوكنا وإنسانيتنا وقيمنا، حتى تنصدم بالواقع الأليم، وتبعات المعارك الخاسرة بين «الجيش الافتراضي» الذي يُتاجر ويُبارز بالكلمات على المنصات.

وعلى الضفّة الأخرى، بعيداً عن العالم الرقمي وكل ما تضُخه الشاشات، جيل من الطيّبين يقترب من طي النسيان، ويكاد يسقط من الذاكرة؛ فهو يجهل أبجديَّة الرقمنة وصهيل الإلكترونيات، ولا يستشعر صدق التهاني عبر المنصات، ولا يزال جيل الطيبين على باب القرب المكاني والزمانيّ واقفاً ينتظر نظرة حانية، تترجمها كلمات تهنئة ممزوجة بأنفاس صادقة؛ ولا يزال جيل الطيبين عالقاً عند حرارة المصافحة، ودفء الأحضان.

جيل الطيّبين اليوم مكلوم، يفتقد توهُّج المشاعر، ولا يقبل لها بديلاً، تمتد عبثية واقعنا إلى قلوبهم فتؤذيها، وهم يشهدون من تَولَّاهم بالأمس بالتربية والرعاية والاهتمام حتى اشتدّت سواعدهم، وسقَوهم من رحم منطق القول أحسنه، ومن جوامع الكلم أبدعه، ومن القيم والخُلق أفضلها، وقد ولَّوا وجوهم شطر المنصات والشاشات ومواقع التواصل التي قضت على آخر معقل من حصون مقاومة الغربة الرقمية.


بالأمس القريب، فاجأني واحد من جيل الطيبين قائلاً: أتعلم؟! لقد مرت أُولى أيام العيد الماضي ثقيلة على القلب والروح، شعرت بأني أسكن «ذاكرة النسيان» و«منافي الغياب»، فلا هاتف يُهاتف، ولا صغير يسأل ولا كبير يُعايد، أحسست بسياط الخذلان تجلدني بعد أن راهنت بالأمس على من أغدقت عليهم من العمر والصحة، والحب والاهتمام الكثير حين كانوا صغاراً، لم أكن أعلم حينها أن لصّاً خفياً يتربّص بنا رويداً عبر تلك المنصات الافتراضية والتطبيقات التي يسمّونها بالذكية، ليسلب منّا كلّ ما منحناه لهذا الجيل من إبداع في التفكير، ورقة في الإحساس، ورقي في الأخلاق، ويضع مشاعرهم في قوالب باردة محنطة، ويبرمج عقولهم على خوارزمياتٍ باهتة مُغلَّفة، ويَشُد نظرهم نحو فوضى صور وألوان مُكررة مُبعثرة، ويجعل منّا حملاً ثقيلاً عليهم.


ويختم صديقي حسرته وسرده الموجع بآهات تغصّ في حلقه: أُعلنها مُدوية، أعترف بخسارة المعركة أمام هذا اللص الخفي القابع خلف الشاشات، وقد سلبني أحبائي السائرين خلفه باستسلام؛ راضٍ أنا بمَنافي الخوارزميات، أنتظر على أعتاب ذاكرة الغياب لحظة أفول العمر بلا عتاب.