الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

الحقيقة والوجود.. معاً

لمّا تمسّك العصر الكلاسيكي بصرامة العقل، كان يسعى إلى البحث عن الحقيقة وتجلّياتها في العالم، لذلك فالفلسفة نَحَتْ كما هو الشّأن عند ديكارت ولايبنيتز منحىً تأسيسياً لأُسس الخطاب العلمي استجلاء للحقيقة، فتحتّم على هذه الفلسفة نقض الذاتية والتنافر في المبنى والمعنى، أي بناء نموذج فكري يقوم على العقل الأداتي الصّارم والوحدة من داخل التنوّع كنسق «هرموني» يتوخّى الدّقة كما في العقل التكنولوجي.

كان منطلق الفكر الأنواري في دفاعه عن وحدة الوجود هو تحقيق هذه «الهرمونيا»، فطُرح السّؤال منذ أفلاطون إلى ديكارت وكانط حول كيفية الانتقال من عقل التّوحيد إلى عقل التنوّع في العلوم والفلسفة؟ إذ تمكّن عقل التنوّع من تحديث المجتمعات الغربية وتحرير مبادراتها بالانفتاح على الرأي المختلف، وضمان حرّية الفرد الأنطولوجية والسياسية والاجتماعية، فدافعت الفلسفة الحديثة عن وحدة العقل لتجنّب الكثرة السلبية التي تفضي إلى الغوغائية والشعبوية.

لكنّ آفة دعاة ما بعد الحداثة سقطوا بأفكارهم في أوهام «العصرنة» التجزيئية التي أنعشت نزاعات الانغلاق والتعصّب كقولهم بتعدّد العقول المستقلّة مثل إقرارهم بالعقل العربي والعقل الغربي والعقل الإسلامي والعقل المسيحي.


وهكذا، صحيح أنّه من العسر إيجاد روابط تصهر العقل الكوني، ولكن هناك جهات متعدّدة ومتباينة لمعقولية العقل تخضع لطبائع شمولية مُوحّدة نتيجة للتداخل الطبيعي للذّوات، جعلت هذه الشمولية من المشترك الإنساني أساساً لا ينفكّ أبداً عن «الوجود معاً» والتجاور الذي يعني في نهاية المطاف «العيش المشترك».


أن نوجد معاً لا يعني أننا نضمن بقاءنا ونُؤمّن حياتنا فقط، بل نشيّد وعياً اتّفاقياً يقضي بأنّ السعادة المشتركة هي الخيط النّاظم لتحقّق الآدمية الشّاملة الرّافضة للهمجية والعنف والحروب والاستبداد بمختلف أشكاله، هذا الوعي هو جوهر تحقق وحدة المعقولات المنفرطة والمدخل الأساس لهرمونية الوحدة من داخل التنوّع.

حدث ما بعد العولمة أن تعدّدت أنماط الحياة وتدافعت البراديمات الباحثة عن المعارف الجديدة، ذات الصلة بتَسْييد السّوق والتقنية، لم يكن يهمّها أبداً السّعادة المشتركة وعدالة الوجود معاً، لأن هذا ليس من قيمها ولا من منطلقها، لذلك، اجتهدت في أن يكون الفرد موضوع استهلاك لمنتوجها المفتوح والمركّب ماديّاً ورمزيّاً، وجعلت من الحقيقة حكراً يخصّها على النحو الذي يتوافق مع أيديولوجياتها ومصلحتها، فتمكّنت عبر أجهزتها الأيديولوجية والسياسيّة والمعرفية من التّطويع السلبي لمعنى الوحدة، لكي تعني أخيراً الدّمج الذي يُخضع الفرد إلى سلطتها وهيمنتها الشّاملة، ومع ذلك لم تستطع أن تنتج نسقاً فلسفيّاً يبرّر «الحقيقة» التي تزعمها، فأصبحت خارج الحقيقة وعاجزة عن التصدي للهشاشة المزمنة للإنسان الفرد، أمّا كونها خارج الحقيقة، فلأنّها أوصلت العالم برمّته، على حدّ تعبير الفيلسوف الألماني «إيرليش باك»، إلى الخطر والخوف واللايقين.