الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الاحتفاء الجنوني بالذَّات

في بداية القرن الـ21، كان انبثاق مواقع التواصل الاجتماعي يمثل مفاجأة من العيار الثقيل، وفجأة، أصبح من حقك أن تعبّر عن نفسك في مساحة مفتوحة على الآخر، وشيئاً فشيئاً صارت هذه المساحة تقدم لك الآلاف من الوجوه والمدونات والفيديوهات التي تعبّر عن افتنان الإنسان بنفسه، وحاجته الغريزية لجذب الانتباه، ولتشكيل قصة ملغمة بالتحديات التي واجهها في حياته، وهو ما يؤكد فكرة الإنسان الأولى عن نفسه.

وعلى غرار فيلم «بروس الخارق» إخراج توم شادياك، يتوهم كل منّا بأنه البطل الوحيد في القصة، النجم الذي يمارس يومياته ويواجه التحديات المرهقة، وشيء ما في حدسه يقول له: إن العالم كله يشاهده دون أن يعلم هو بذلك. ومن أجل هذا يتشارك الناس على الشبكة العنكبوتية بكرنفال الاحتفاء الجنوني بالذات.

يقول المؤرخ والمنظر الاجتماعي تيودور زيلدين: "إنَ الميزة العظمى لعصرنا هي استكشاف البشر الذين يسكنون العالم شخصاً شخصاً، عندما يحل أناس حقيقيون محل الصور النمطية لأشخاص من مختلف البلدان".

وأعتقد شخصيّاً أن هذا الرأي صائب نسبياً فيما لو حسبنا السنوات الأولى لانطلاق ثورة التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي حين تكشفت لنا ثقافات مختلفة من أنحاء الكوكب، لكن مع التوغل أكثر في الاستخدام المفرط للعالم الافتراضي، الذي قام بتقويض الحياة الواقعية لصالح تلك الافتراضية، نجد أن شدة سرعة دوران الإنسان حول ذاته أصبحت في ازدياد هستيري، حتى إنه بدأ بمغادرة ذاته الحقيقية من أجل الأخرى المزيفة التي قام بصقلها جيّداً، ثم شيئاً فشيئاً فقد حسه بتدفق العالم الواقعي من حوله، وانقطعت الخيوط الواهنة التي تربطه بالآخرين، وصار يحاكم الناس من منطلق ذاته المزيفة تلك.

جاء انهماك الإنسان الحديث بنفسه على حساب التعاطف مع الآخر، وهذا ما يشير إلى ازدياد طباعة الكتب التي تهتم بالتنمية الذاتية واختراع «السيلفي»، الذي يقوم المرء بنفسه في القبض على فكرة وجوده كمركزٍ للحياة، ما يحفزه ومن غير أن يشعر على استحالة الغفران، وانعدام القدرة على تمرير الأخطاء التي ترتكب في حقه.

وهكذا أصبحت العلاقات في هذا القرن شبكة عنكبوتية كبيرة أيضاً، في خيوطها الواهنة يتجلى مدى تهاوينا على المستوى الإنساني بالكثير من التهريج، والقليل جداً من المتعة.