الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

«المُتخَلَّى عَنْهُ»

تعتقد صديقة لي، بأنها مصابة بلعنة من أكثر اللعنات إيلاماً في الحياة، وهي لعنة «المتخلى عنه» حيث يتخلى عنها الأحبة في كل دورة من دورات حياتها، فهي ترى أن لا حبيب طرق بابها عاشقاً حتى انتهى به الأمر مُفارِقاً بلا مبالاة، ومن دون أي أسباب واضحة، وما من صديق أو صديقة بدأت القصة بينهما تصل إلى مراحلها السعيدة حتى ينقلب ـ أو تنقلب ـ عليها من دون أي إنذار، بل ذهبت في الاعتقاد إلى الأبعد من ذلك، فهي تشعر أن المدن أيضاً تلفظها سريعاً كلما قررت المكوث فيها.

وكنتُ في كل مرة أحاول مواساتها، فأصطدم بعبارة كانت ترددها مع الدموع: «لقد منحتهم كل شيء» في هذا الوقت ترن في رأسي عبارة دونتها في روايتي الأخيرة تقول: «لأني لا أعرف ماذا تريد بالضبط، فقد أعطيتك كل شيء!».

هذه هي المشكلة، فأنتَ حين تتكشف للآخر مثل مجلة قديمة في غرفة انتظار الطبيب، تفقد أشكال وجودك الغامضة، وتعدم تلك التوقعات التي ينتظرها هذا الآخر من علاقته بك.

قلت لها: أنت تعدمين احتمالاتك، وأنتِ تمنحين الآخر كل شيء، هكذا وفي أول لحظة لقاء كما لو أنك توفرين عليه مشقَّة اكتشاف ذلك النوع من السحر الذي يميز كل شخصية عن سواها، وتدفعين به إلى التصفح السريع لما وقعت عليه عيناه، ليركن المجلة جانباً دون أي شعور بالأسف.

لن يجعلك هذا الأمر محبوبة، ولن ينفعك قولهم إنكِ اجتماعية لطيفة تعيش حياتها مثل شجرة تعرت أغصانها في أول نسمة من الخريف، فالحياة الاجتماعية تحكمها عملة ذات قيمة تبادلية رصيدها ذلك السحر الذي تخبئه شخصية كل منا دون تفريط، وبمنطق الاقتصاد فإن أيّ عملة بلا غطاء تفقد قيمتها وتصبح عرضة لتقلبات السوق.

هذا بالضبط هو النقيض مما يقدم عليه بعض الأشخاص، الذين يمنحون كل شيء ومن أول مرة، ابتساماتهم، أموالهم، أسرارهم، اهتمامهم، عاطفتهم وما تبقى عندهم من ممكنات.. يعتقدون بذلك أنهم سيحصدون الولاءات والحب وضمانات لعلاقات طويلة الأمد، إلا أنهم يتفاجأون بالعكس تماماً.

ثمَّة شفرة سريَّة في قوانين الطبيعة الاجتماعية، تستبطن الخيط الرفيع والخفي الذي يفصل بين أن تبقى وحيداً بعد كل ما بذلته من أجل الآخرين، وأن تبقى وحيداً أيضاً لكن بصحبة ما احتكرته لنفسك ومنعته عن الناس.

في مكالمتي الأخيرة مع صديقتي، بداَ لي أنها تخلَّصت أخيراً من لعنتها الطويلة، بعد أن تعلمت لعبة الحضور والغياب من خلال مئات المحاولات لإقناعها من دون جدوى.

يبدو أن مرارة التجربة وحدها من علمتها أسرار لعبة الاحتفاظ بقيمة ذاتها، وبالآخرين على حدٍ سواء.