الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

مات.. وفي قلبه شيء من «مَي»

كان الرافعي يحب مي زيادة، بصره لا يغادرها، وكانت هي تأتي إلى صالونها، وتحت ذراعها ملفات وأوراق، تضعها على المكتب قبل أن تحيل الكلمة لمدير الجلسة، لولا اللغة التي أنقذته، لانتهى به الأمر إلى الجنون!
لنتخيل للحظة مصطفى صادق الرافعي، وهو رجل متدين ومفكر، يقطع المسافات الطويلة بين طنطا والقاهرة، متحملاً متاعب أدخنة القطارات القديمة، صباح كل يوم ثلاثاء، لا لشيء سوى لرؤية مي زيادة، فقد كان حب مي شاقاً بكل المقاييس لأن منافسيه كانوا من علية القوم: العقاد، خليل مطر، حافظ إبراهيم، طه حسين، لطفي السيد، عبدالقادر المازني، أنطوان الجميل، وسلامة موسى، وإسماعيل صبري وغيرهم، فكان عليه خوض حرب دونكشوتية خاسرة منذ البداية، ومع الوقت أصبح هذا الحب معضلة حقيقية بالنسبة لمي التي ظلت تساير الرجل، يوم الثلاثاء كان مقدساً بالنسبة للرافعي، يقضيه عندها من لحظة وصوله حتى مغادرته المكان، كان عليها أن تراعي وضع سمعه المعدوم ومشاعره، كان لا يفهم ما يقال، حتى أصدقاؤه الذين كانوا يساعدونه بالكتابة له حتى يفهم ما يقال، تخلوا عنه مع الوقت، وعلى الرغم من غبن حاسة السمع، ظل مشدوداً إلى مي بكتاباته، انتقل شعره من الوصف لما كان يراه إلى الغنائية الدرامية، عندما تتكلم مي يبذل جهداً بلا وسيط، لكي يقرأ حركة شفتيها، يشتق منها لغة ومعنى، لهذا كتب شعراً كثيراً وألّف دواوين في مي لدرجة أنه تخيلها تبادله أحاسيسه وشغفه العشقي، ما اضطر مي إلى أن تسر لبعض أصدقائها أنه لا علاقة لها بالرافعي، وأنها تحترم نبل عواطفه السخية، لكنه أصبح يحرجها.
أوغل الرافعي في حب مي حتى أصبح يتخيلها في كل مكان، حالة من الجنون، هذه الأوهام الغرامية، نتج عنها شعر جميل يشكل اليوم رصيده العشقي لمي: «السحاب الأحمر»، «أوراق الورد» و«رسائل الأحزان»، أوجد لحظات عِشقية بينهما ومراسلات غير حقيقية، وظلت مي تنكر وجود أية علاقة، من أي نوع بينهما، وبدأت تهمله في جلسات الثلاثاء، حتى الصداقة، أفسدتها جزئياً مبالغاته، إذ جعل من أحاسيسه الجياشة قصته كلها، حالة نادرة في نمط الحب من طرف واحد، اضطرت مي في النهاية إلى أن توبِّخُه، وطلبت منه بحدة، أن يكفَّ عن أوهامه والإساءة لها في كل مناسبة، فقد كان يختلق الأحاديث والغراميات، والحوارات الوهمية بينهما، وزاد إهمالها له في الصالون، لدرجة أن أصبح يأتي ويعود إلى طنطا دون أدنى اهتمام، فشعر بالإهانة، وتوقف عن الزيارات وعن قول الشعر، حتى مات وفي قلبه شيء من مَي!