السبت - 20 أبريل 2024
السبت - 20 أبريل 2024

التقوقع.. وضرورات الحياة المعاصرة

الثقافة والسلوك يتطوران تبعاً لتغير الظروف، والمجتمع الحر يُنشئ ثقافته ويطوِّرها حسب ظروفه المستجدة. ولأن الوقت أصبح محدوداً، بسبب كثرة الانشغالات، فلم يعد متاحاً ممارسة عادات وتقاليد نشأت في ظروف مختلفة ولأسباب موضوعية.

الكرم عند العرب مثلاً، نشأ بسبب وجود حاجة ماسة له، تتعلق باستمرار الحياة في المجتمعات القديمة، فعندما يتنقل المرء في الصحراء والأرياف النائية يضطر لأن يبيت ليالي عديدة في الطريق، ولا خيار له سوى أن يحل ضيفاً على الغرباء الذين يأوونه ويطعمونه دون مقابل. ولأن الجميع كان يحتاج إلى هذه الخدمة، فقد أصبحت ممارسة شائعة. ولكن، هل توجد ضرورة لها الآن؟

الشعر العربي، مثلاً، نشأ لحاجات قديمة، منها التنافس بين القبائل، وضرورة وجود ناطقين لها يجيدون فنون الخطابة والتعبير، فولد الشعر المقفى، وتطورت أغراضه التي تبدأ وتنتهي بالمديح! فالرثاء والفخر والغزل مديح، والهجاء دفاع عن الممدوح. لكن الشعر تطور مع تطور الحياة، فقلَّ نظم الشعر المرتبط بالموسيقى، ونشأت أشكالٌ أدبية جديدة، فظهر الشعر الحر ثم قصيدة النثر المتسقة مع العصر، الذي يتسم بالسرعة ولا يتسع للمديح والموسيقى البطيئة.

ومن أسباب تقوقع المجتمعات أن مصالح طبقة متنفذة تتطلب البقاء في الماضي، فأضفت عليه قدسيةً كي تفرضه على الناس بالقوة. لكن حركة العصر تبتعد دائماً عن الماضي، ما يصيب الداعين إلى الجمود بالإحباط بسبب فشلهم في إقناع الناس بأفكارهم البالية، لذلك تجدهم يلجؤون إلى القسر والإرهاب والتضليل لإرغام الناس على اتباعهم.

القديم مرتبط بزمن مضى ولن يعود، والحياة العصرية تفرض أنماطاً جديدة من التفكير والعمل والسلوك والأخلاق والتعامل. وهذا التطور لم يحصل بطراً أو ترفاً، وإنما لضرورة فرضتها الحياة المتجددة. أصبح الإنسان مضطراً لتعلم فنون ومهارات ومعارف كثيرة كي يمارس حياته الطبيعية، بينما الوقت المتاح له محدود، ما يضطره إلى التخلي عن ممارسات قديمة ليفسح المجال لمتطلبات العصر المتزايدة.

من يسعى لإبقاء الناس أسرى للتقاليد والعادات القديمة الضارة، إنما يدفعهم إلى التخلف عن ركب الأمم المتطورة، ومن يبتغي المصلحة، عليه أن يكف عن قسر الآخرين على ممارسات مبدِّدة للوقت والجهد والمال، ولا تمت للعلم والحياة والدين بصلة.