الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

كفى افتئاتاً واستحداثاً

وأنا أتأمل الكلام النفيس للإمام الشافعي في باب كيف البيان، من كتابه الشهير «الرسالة»، صفحة «39»، توقفت عند استعراضه لقول الله تعالى، في الآية 95 من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَام}؛ وقوله رحمه الله: «ليس لأحد أبداً أن يقول في شيء حلَّ ولا حرُم إلا من جهة العلم، وجهةُ العلم الخبرُ: في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس»..

توقُّفي لم يكن بالقصير، والسبب هو تخوف البعض من الاجتهاد في المسائل الدينية الفرعية، خاصة وهم يسمعون أن باب الاجتهاد مقفول، وأنه يكفينا في ذلك الرجوع إلى ما قاله الأسلاف والأقدمون قبلنا، ومن يحاول ستطاله التهم المعلبة: «مبتدع»، «ضال»، «منحرف»، وربما أشنع من ذلك، من جنس «ملحد» وغيره، وبطبيعة الحال، أنا هنا لا أحاول التقليل من مكانة من تقدم، فهذا ليس من فعل العقلاء.

من أبرز المخوفات من الاجتهاد قول: «هذا لم يفعله صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة، ولا التابعون»؛ ومن لا يفهم منطوق الكلام يحيط نفسه بحواجز وهمية، تمنعه عن إدراك أن «مسألة التروك»، وأقصد عدم الفعل، مسألة جرى فيها الاختلاف بين علماء أصول الفقه، بين من يقول بأنها حجةٌ أو ليست بحجة؛ فهل إذا ترك صلى الله عليه وسلم شيئاً يعتبر تركه دليلاً على حرمة هذا الفعل؟

الجواب طويل، والاستدلال بالترك على تحريم المتروك، قول مرجوح، والتسرّع بالحكم بالتحريم لمجرّد الترك، بدعة سيئة واستحداث وافتئات على الشرع، وعن هذا يقول العالم المالكي المشهور، السيد عبدالله بن الصديق الغماري، رحمه الله، في رسالته الراقية المسماة «حسن التفهم والدرك لمسألة الترك»: «كان الأئمة مالك والشافعي وأحمد يتوقّون إطلاق لفظ الحرام على ما لم يتيقن تحريمه لنوع شبهة فيه، أو اختلاف أو نحو ذلك، بل كان أحدهم يقول أكره كذا، لا يزيد.. فما لهؤلاء المتزمتين اليوم يجزمون بتحريم أشياء مع المبالغة في ذمها بلا دليل إلا دعواهم أنّه صلّى الله عليه وسلم لم يفعلها وهذا لا يفيد تحريماً ولا كراهة».