الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

السخرية.. ترياق المعدمين

سألتني إحدى الكاتبات الناشئات ذات مرة، كيف أكتب نصاً ساخراً، أو بالأحرى كيف أصبح كاتبة ساخرة؟

أجبتها: إن السخرية لا تُلقّن، فجزء كبير منها يولد مع الإنسان، والجزء الآخر يكبر فيه من خلال شده وجذبه مع الحياة وتفاعلاته معها؛ أو معركته التي يخوضها في دروبها صعوداً ونزولاً.. بكل انعطافاتها المفاجئة وإشراقاتها وخيباتها، فمن رحم تلك المخاضات المتوالية، ربما يسقط كائن عملاق فائض بالسخرية السوداء!

المفارقة المحيّرة، أن الكتّاب الساخرين في وطننا العربي قلة، بل عملة نادرة وكأن نسلهم قد انقطع، إذ يمكن عدّهم على أصابع اليد، ما يجعل الجنس الأدبي الساخر على المحك، أو مقتصراً على ما يؤلفه العامة من فكاهيات خاطفة يتناقلونها شفاهة، أو إلكترونياً فيما بينهم نهاراً ويتناسونها ليلاً حالما يضعون ثيابهم، كشكل من أشكال المواساة اليومية، لمواجهة مفارقات الحياة، أو حيلة ابتدعوها للقفز فوق منجلها، فالطبقة المتوسطة أو الكادحة غالباً ما تمتلك مَلَكة «السخرية» في قلب المواقف الصادمة وتحويلها إلى كوميديا سوداء أو جسور للعبور فوق أوجاعهم وكأنها خبزهم اليومي الذي اعتادوا عليه.

في عالمنا العربي، قد يخلط بعض العامة ما بين مفهوم السخرية وأسلوب الفكاهة وأسلوب التهريج، وشتّان ما بينهم، فالسخرية تبقى دوافعها تنزف في الذات الساخرة بعكس الضحك تماماً، ولربما كان للمسرح التجاري العربي دور في ترسيخ هذا اللبس لدى المتلقي، بخلطه للكثير من المفاهيم والقيم الإنسانية والأخلاقية والأدبية.

السخرية هي فن مراقصة الوجع والتنطيط فوقه متى ما عجزت عن حمله

فالسخرية، هي الكوميديا السوداء التي تعلمك البكاء بأسلوب التمويه، هي حبة الدواء المُرّة المغلفة بطبقة ملونة من السكر؛ هي فن مراقصة الوجع والتنطيط فوقه متى ما عجزت عن حمله!

وأمام هذا الخراب الذي يشهده العالم الذاهب بعيداً في حماقاته وخساراته وكأنه ما عاد يثير الغضب فينا بقدر ما يستحّث سخريتنا منه، وحدها السخرية ستوهمك بأن الحياة ما زالت صالحة للعيش، وأن هناك متسعاً للجميع، وبأن الحب حقيقة، وبأن الخير طريقه سالكة ووحده سيجمع الناس، وأن هناك دوماً من يُخبئ لك شيئاً جميلاً في قلبه، وما في صدرك ورأسك هي ظنون وأوهام أو أضغاث أحلام، وبأن الحياة ولكي تصبح ممكنة، تحتاج إلى فرح قليل والكثير الكثير من السخرية.

السخرية خبز المعدمين وزاد اليائسين؛ هم أولئك القابعون خارج خط تماس الفرح؛ من هيّأتهم أقدارهم من قبل أن يُطلقوا صرخة الحياة، لحياة لم ولن تمنحهم أكثر من ترياق سخرية؛ كي يواجهوا خيباتها بضحكة ماكرة سوداء، نصفها دمع ونصفها الآخر من اللاشيء!