الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

«كيسلوفسكي».. وتقاطع مصائر الروح

تكمن أهمية أعمال الروائي التشيكي «ميلان كونديرا» في تجاهله تطور المتن الحكائي لصالح معالجة مفهوم من المفاهيم الوجودية، التي اعتاد تقليبها من عدة وجوه، رافضاً مغازلة القراء على النحو الذي لا يتحول فيه النص إلى كومة قش سريعة الاحتراق، وهذا ما لجأ إليه المخرج السينمائي كيسلوفسكي، في ما يعتبر بمثابة نقلة جذرية في عالم الفن السابع، من خلال تأثير رؤيته الوجودية على المشهديَّة السينمائية والنص السردي.. لقد غاص كيسلوفسكي في المشاعر الإنسانية الملغزة بعيداً عن التسلية والرسائل المباشرة.

في عام 1991، انطلق هذا المخرج من بولندا نحو العالم عندما أطلق فيلم الحياة المزدوجة لفيرونيكا، وأحسب أن هذا الفيلم لن يتكرر في تاريخ السينما لسنوات طويلة، وقد شغلتني أسئلة عن معنى وجود روح واحدة في أكثر من جسد، حيث تعودنا أن نشاهد أفلاماً تتحدث عن ثيمة الازدواجية بمعناها التعاكسي، أي أكثر من روح تقيم في جسد واحد، لكن ما نفذه كيسلوفسكي كان بالنسبة لي ضرباً من الخيال.

الفيلم يحكي قصة فتاتين، الأولى هي فيرونيكا البولندية، والثانية فيرونيك الفرنسية.. تشعر كل واحدة منهما بكيانها، وهو ينبض في مكان آخر.. تتقاطع مصائر الروح الواحدة في ساحة عامة، تمثل الفوضى التي أعقبت سنوات سقوط الاتحاد السوڤيتي.. تنظر أحدهما نحو الأخرى فجأة من خلف الزجاج ثم تمضي حافلة فيرونيك الى الأبد مخلفة وراءها كثيراً من الأسئلة.


كما يغوص هذا الفيلم في عدة موضوعات في آنٍ واحد؛ الهوية، العوالم المتوازية، الحب، والفضول الإنسان، وأزعم أن كيسلوفسكي تعمَّد الانفلات عن الواقع حتى في نحت شخصياته، التي تبدو وكأنها نصف بشرية.. لقد حرر إحداهما من الأخرى بموت فيرونيكا، لتشعر في تلك اللحظة قرينتها فيرونيك بأن ثمة حزن، ووحدة لم تألفها من قبل دون أن تعرف السبب.. تبكي بحرارة لا تنقطع ثم تقول: هذه هي المرة الأولى التي أشعر بأنني وحيدة.. وحيدة إلى الأبد.