كل تفاصيل أيام لم نعشها يمكننا الإحساس بها من خلال ما نتوارثه من أجدادنا من حكايات عنها، أو من أفلام السينما التي نقلت حياة الطبقات الاجتماعية قبل 60 عاماً، نراها وننبهر ونبتهج وربما نحزن أن بعضاً من الأماكن التي صورتها تلك الأفلام تغيرت وتبدلت ملامحها، وربما لم تعد موجودة من الأساس.
مصدر آخر لتلك الذكريات هو رائحة الورق التي تفوح بروائح الأماكن وتفاصيل حياة البشر، أو بعض صور الذكرى التي قبعت في خزائن أصحابها، في دواليبهم أو علب مجوهراتهم، احتفظوا بها وحفظوها لأنها حملت جزءاً من روحهم وعدداً من سنوات عمرهم.
كثيرون يهتمون بجمع تفاصيل حياة من سبقونا، صحف، مجلات، أنتيكات، عملات وغيرها، ومن هؤلاء الصحفي المصري محمود التميمي الذي يهوى جمع الوثائق النادرة والصحف، قبل أن تمتد يديه لـ150 صورة لمصريين من الستينات، فلمست روحه قبل أن تلمسها يداه.
البحث عن «نيرفانا«
يهوى التميمي جمع المُستندات الحكومية القديمة والكتب والمجلات، ويتعامل في سبيل ذلك مع أحد التجار، ولم يكن يهوى مطلقاً جمع الصور، لكن صدفة اعتبرها مُبهجة جعلت الرجل يعرض عليه مجموعة من الصور، والتي ميزها أنه مر عليها 60 عاماً، راصدة لتطور المصريين.
ويقول لـ«الرؤية»: «أعجبت بالصور التي بينت تطور بعض العائلات، حيث بينت الصور رحلتهم طوال الستينات والسبعينات، تطور الملبس والموضة، تطور بعض الأماكن قبل الزحمة وتغيير المعالم، ووجدت أن بعض الصور لبنات في سن 10 سنوات بعضها مهداة لشخصية واحدة اسمها (أبلة سميرة)، ومن الواضح فيها أنها جاءت بعد انتهاء فترة دراستهن بمدرسة بورسعيد الشهيرة بحي الزمالك، وجاءت الصور كذكرى منهم لمُعلمتهن التي ربما لم يُشاهدنها مرة أخرى.«
رغم أن التميمي يحتفظ بالكثير والكثير من الأنتيكات التي ربما تعود لأكثر من 150 عاماً وغيرها من المستندات القديمة، ولم يفكر مُطلقاً في التفريط في أي من ممتلكاته تلك، إلا أنه لم يفعل الشيء ذاته مع صوره، فيرى أن مهمته تتلخص في البحث عن أصحابها إن كانوا موجودين على قيد الحياة، أو حتى ورثتهم.
ويضيف «من تلك الصور كانت نيرفانا، التي أرسلت صورتها للذكرى لأبلة سميرة، الصور بالنسبة ليّ وجودها مُبهج، لكن الأكثر إبهاجاً هو وصولها لأصحابها، لا أتخيل كيف يكون شعورها عندما تلمس يدها الصورة التي لمستها قبل 55 عاماً.«
بالفعل وبعد نشر الصورة على «فيسبوك» تواصل أحد الأشخاص مع التميمي، وعرف نفسه بأنه زوج ابنة السيدة نيرفانا، ليحصل على صورتها، ولم ينس التميمي أن يبعث بجواب للسيدة نيرفانا.
ويستطرد «الصورة أصابتني بالسعادة لنحو 24 ساعة، وسعدت أنها وصلت للسيدة التي أصبحت الآن جدة لتستعيد ذكريات سنواتها الماضية، وفعلت الشيء نفسه مع صور أخرى بالنشر على فيسبوك، لكن حتى الآن لم يتواصل معي أحد بشأنها.«
سر السعادة
استخدم التميمي أحد برامج التلوين لجعل الصور أكثر بهجة، وعن ذلك يقول «وجدت صورة شديدة البهجة لإحدى الأسر تجلس في الحديقة اليابانية بحلوان، منتهى النظافة والأناقة والرقي والذوق، حكت الصورة الكثير عن مصر في تلك الفترة الزمنية».
ويوضح «زمان لم تكن النظافة مقتصرة على طبقة بعينها، فالأم ربما تكون من طبقة فقيرة لكنها قد تكون خياطة ماهرة لتُحيك لبناتها فساتين خلابة، البساطة في أبهى صورها، والجمال المقترن بالبساطة أهم ما يُميز تلك الصور، التي حكت عن مصر كيف تطور الوضع، كان العمل هو الأساس والسعادة والبساطة أتية سمة كل شيء، لم يكن هناك الانفجار الاجتماعي الحادث الآن».
ويُشير «محدودية الخيارات كانت سر السعادة، فالرفاهية لم تكن مُقتصرة على فئة واحدة، فأماكن الخروج ذاتها لم تُميز فئة عن أخرى».
ثقافة الزحمة
ويتحسر التميمي على الحقبة الزمنية التي صورتها صوره النادرة، كيف كانت علامات الرضا مرسومة على وجه الجميع، ويبحثون جميعاً عن السعادة بلا تكلف.
ويُرجع ذلك لما أسماه ثقافة الزحام ويقول «المصريون ارتكبوا أكبر خطأ في حق أنفسهم بالزيادة الكبيرة في عدد السكان، ففي الحقبة التي تحكيها الصور كان عدد سكان الوطن العربي كله 100 مليون نسمة، الآن عدد سكان مصر فقط 100 مليون، وهو ما ولّد كل العادات السلبية، فالزحمة هي مكينة لتوليد كل ما هو سيء في الآداب والأخلاق والذوق والثقافة، وحتى فهمنا للدين، وهي جريمتنا في حق أنفسنا.«