الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

مذكرات الطفل نجيب محفوظ المفقودة (الحلقة الثالثة): مأساة الأخت

مذكرات الطفل نجيب محفوظ المفقودة (الحلقة الثالثة): مأساة الأخت
يذكر الطفل زوج أخته الثانية كما لو كان في حلم من الأحلام، وكانت هذه الأخت أجمل أخواته: زرقاء العينين، مستديرة الوجه، عذبة القسمات، واضحة الجبين، رشيقة القوام، لهذا كانت أسبق أخواته إلى الزواج، فتزوجت، وهو وإن كان لا يذكر فرحها إلا أنه يذكر بالطبع زياراته لها في منزلها الجديد، إذ كان يكثر من ذلك كثيراً لشدة ولعه بها ولعظم كلفها به، فكان يذهب إلى المنزل يلعب ويمرح وقد يسمع الفونوغراف قليلًا، وكانت حماة أخته تخيفه وتزجره، فكان يهابها كثيراً، ويعمل لها ألف حساب، إذ كانت امرأة «حيزبون»، قاسية الفؤاد، دنيئة النفس، كثيرة اللؤم، محبة للشر، كثيراً ما سامت أخته أنواع العذاب، وربما كانت هذه المرأة أصل شقاء أخته الجميلة. والزواج لعبة أو رهان، وقد كان حظ أخته سيئًا رغم جمالها المفرط، إذ بدأت بينها الحزازات وبين حماتها تارة، وزوجها تارة أخرى، ولكنها رغم ذلك كانت تصحبهما في الأسفار إلى أنأى البلاد حيث تنتهي به وظيفته، وتلا ذلك فترات كانت تمضي الأخت بعضها في منزل زوجها والبعض الآخر في منزل أبيها، إذ كانت غضبانة مع زوجها (على حد تعبيرها)، وكان أول ما رزقت به ولدًا كان له أثر في حياة الطفل، وقد أحبه من صغره، وازداد له حبه على مر الأيام حتى أصبحا جزأين لا ينفصلان، ولو أن ذلك لم يمنع طفلنا من أن يستبد بابن أخته كثيراً، ويؤذيه طويلاً، كما كانت عادته إذا غضب أو زعل.

ورزقت الأخت ولداً آخر كان بالغاً في الجمال والحسن، ولهذا أيضاً شأن في حياة طفلنا. وعلى أثر ولادتها لهذا الطفل حدث بينها وبين زوجها زعل، فمكثت في منزل أبيها برهة طويلة، وكان الأب قد عقد عزمه على تطليقها لولا إلحاح الزوج وعدم رغبته في ذلك، فرُدَّت إليه وكانت ثمرة ذلك فتاة صغيرة، ثم نشأ شقاق آخر طلقت الأخت نهائيًّا على أثره وهكذا كانت حياتها الزوجية سلسلة من الآلام المتتابعة وقد أثر ذلك في صحتها كثيراً، فأنهك قواها ونخر عظامها، وأضنى صحتها، وذهب بالكثير من رونقها. ولم تكن حياتها في منزل العائلة حسنة جدًّا، فكفاها هذا الطلاق ألمًا، فليس فقدان الحب في ميع الشباب بالشيء الهين على شابة مثلها، ولكن هكذا حكمت الأقدار، وهكذا كان حكمها قاسيًا.

لم يشعر بهموم أخته وحبيبته في أول الأمر لعدم إدراك عقله الصغير أمثال هذه الآلام، فكان يفرح إذ يراها بجانبه ويقنع بذلك مسرورًا، ولكن على مرور [مر] الأيام فطن للأمر، وابتدأ يتحمل جزءًا من الألم لأخته ومحبوبته التي طالما أسعدته وفرجت عنه الهموم. ولا شك أن ذلك أثر في نفسه الرقيقة تأثيراً عنيفاً، وهو كلما يكبر يزداد معرفة بالأمور، فيزداد ألمه لها وحزنه عليها، ولا تزال هذه الأخت على ما كانت عليه من مرض وسقام وضعف وهزال وحزن وألم، ولو أن حياتها لا تخلو من العزاء والسرور في كثير من الأحايين، ترى لماذا نكون ضحايا للألم في هذه المرحلة الصغيرة؟ ألم يكفها صغرها وزوالها؟ وألم يقنعها الفناء الذي ينتظر الجميع؟


قبل طلاق أخته بسنتين مرض الطفل مرضاً شديدًا تركه طريح الفراش، وقد اشتد وقعه عليه وازداد الهم، فألم بعينيه وجع أليم، وهكذا تُرك على فراشه معصوب العينين في ألم مبرح، وكانت أخته هذه في ذلك الوقت في كفر الشيخ مع زوجها، فلما درت [علمت] بمرضه انزعجت انزعاجاً شديداً وأظهرت قلقها لزوجها، ولم تخفِ عليه رغبتها في السفر إلى القاهرة للاطمئنان عليه، وربما دفعها إلى ذلك أيضاً شوقها لأهلها ولمسقط رأسها، وضيقها من القرية بعد المكوث فيها مدة طويلة، وألحت على زوجها حتى خضع لها ورافقها إلى القاهرة، ثم إلى منزل أبيها وودعها هنالك. وكان الطفل في هذيانه فلم ينتبه لأخته المحبوبة، ولكنه أخذ يشعر بها بعد مرور بعض الأيام، وتجلى السرور في عينيه، فكان لقربها منه تأثير حسن في تقدمه إلى الشفاء. وبعد مرور سبعة أيام استطاع أن يبتسم لها ويقول: «أبلة.. هل جئتِ؟ كم أنا فرح!»


فتتمتم بنغمات رقيقة تجيبه وتدلِّـلُه وهي ترسل إليه نظرات تفيض حناناً ومحبة «لم أجئ إلا لأراك يا حبيبي. لقد فوجئت بخبر مرضك فلم أستطع صبراً هنالك وجئت مسرعة لأجلس بجانبك».

-«آه يا أبلة.. لو تكونين هنا دائمًا».

- «ليت ذلك».

قالت ذلك ثم نظرت للأم وكانت جالسة على حافة «المرتبة» تحرق بخورًا في موقد صغير.

- هل أنت غير مرتاحة معه «مع زوجها»؟

- «أمه يا أمي مثل الحية لا تدعني مرتاحة أبداً».

- «يا رب تموت حماتك يا أبلة. أتفتكرين لما كنت أذهب إليك في البيت، وكانت (تزغر) لي بعينيها المخيفتين إذا ما أخذت ألعب وألهو».

أخذ يتعافى حتى برئ تماماً، واستطاع أن يترك المرتبة، ويجري في السطح وفي حجرة الفراخ والمخزن، وكان إذا جن الليل يأوي «للحجرة الصغيرة» وتأخذ أخته تقص عليه بعض ما رأته في القرية: «عندنا في العزبة ترى بيوت الفلاحين الصغيرة مجتمعة بجانب بعضها كأنها (غية حمام) أو خلايا نحل، وهم يعيشون عيشة سعيدة بين الحقول والمصطبة، فلا يعكر صفوهم معكر في حياتهم البسيطة، آه لو ترى الرجال وهم يحرثون الأرض ويبذرون الحب وينشدون الأغاني، في ضوء الشمس أو تحت الرذاذ، في شدة الحر أو أشد البرد، والنساء ترعى البقر والجاموس والماعز ويحلبن الألبان ويبعن الزبدة والجبن، والصبية الكبار يساعدون آباءهم في أعمالهم، والصغار منهم يلعبون حول الساقية أو يسبحون في الماء أو يتشاجرون من أوهى الأسباب، وكنت أرى صبيًّا شاطرًا يشبه وجهه وجهك، ويحاكي لعبه لعبك، فكنت أسميه باسمك وأناديه به، وكنت أحنو عليه كما أحنو عليك، وكنت أصحبه في تجولاتي على ضوء القمر وتحت نجوم السماء وفي سكون الليل. كم من ليالٍ كنا نجلس (ناس في بعضينا) تحكي كل منا ما وقع لها أو ما رأته وكان .. ابني يستمع. صاح الصبي: كيف حاله كم كنت أود أن أراه».

«لقد حاولت أن أصحبه معي فعارضت حماتي – الله لا يكسبها – ثم صمتت ولم تستطع أن تذكر السبب الذي من أجله مانعت الحماة من سفر ابن ابنها- إذ خشيت عليه من عدوى المرض، كما خشيت أن يضربه الطفل كعادته إذا غضب مع صبي مثله، وقد فطنت الأم لذلك ولم تكتم الخبر عن ابنتها.

ولكن مرضي لم يكن معديًا».

نعم يا أمي ولكنها شكت، نعم شكت الملعونة، وكم أخشى عليه - وهو وحيد هنالك – من غضب أبيه، أن يضربه بسوط يا أمي كلما هفا هفوة صغيرة، وكم حاولت أن أذود عنه فما نفع دفاعي شيئًا. ثم ساد سكون وكانت الأخت تبكي وهي تتكلم فهدأت الأم روحها وسكنت خاطرها وقالت: إنه على كل حال أبوه، وهو شفوق عليه مثلك، والصبي شقي جدًّا يا ابنتي. مضت بضعة أيام قضاها الطفل سعيدًا مرحًا بجانب أخته المحبوبة ولكن لكل شيء نهاية، ففي نهاية أسبوعين من وصول الأخت بعث الزوج إليها خطابًا يخبرها بأنه في حاجة إليها كثيراً، وأنه لا حاجة لمكوثها في القاهرة بعد أن شفي أخوها.

تنهدت الفتاة بحزن، ستعود إذن إلى القرية وإلى حماتها.

«ليتني أسافر معك يا أبلة» قال الصبي.

«ليت» همست بحزن، إذ كانت تعلم أن أمها لا ترضى بذلك أبدًا لخوفها عليه، ولأن عدم وجود مراقب عليه مثل أمه يجعله عرضة لأن يقع خطر من ألعابه المخيفة التي تدل على «شيطنة».

وجاء يوم السفر فرافقها أخوها الأكبر إلى المحطة بعد أن ودعت أمها وأباها وأخواتها .. نعم، وغابت وهي تسمع نحيب الصبي.

وجلس على حافة النافذة الصغيرة، حيث جلس يودع أخته وهي في العربة مع أخيه وكان يخيل إليه أنه لا يزال يرى مؤخرة العربة وهي تختفي شيئًا فشيئاً.

آه ليته يمرض مرة أخرى لتأتي إليه ثانياً!

ودار الفلك، فنسي الطفل كل شيء إلا لعبه، ولو أنه كان يتذكر في بعض الأحيان أخته. وقد سأل أمه ذات يوم:

- «أين تقيم أختي؟»

- «في كفر الشيخ»

- «ألا تخاف أختي من الشيخ هذا؟ ولا بد أن يكون مخيفًا مرعباً.. ربما يؤذيها يوماً أو يأكلها»

- ولكنها مع زوجها وفي وسط الفلاحين.

غداً: حلقة جديدة