الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

العالم جوزيف تايلور الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء: سنوات صعبة تنتظرنا في المستقبل.. لكن العقــل البشري قادر على إنقاذ الإنسانية

كان الشتاء قارساً في تلك الليلة من ليالي شهر مارس من عام 1941، لكن الحدث لم يكن مفاجئاً، فالسيدة «سيلفيا» كانت تستعد لولادة ابنها الثاني، وداخل مستشفى صغير بمدينة فيلادلفيا الأمريكية، وضعت السيدة مولودها، سمّاه والده (جوزيف) ولم يكن ليعرف أن هذا المولود سيكون له شأن عظيم في المستقبل.

بعد 52 عاماً على ذلك الحدث، كان جوزيف نائماً في منزله بولاية نيوجيرسي الأمريكية. وفي ساعات الفجر، رن جرس الهاتف، استيقظت الزوجة لتجيب، ثم هرعت لتوقظه من النوم: عزيزي، أخبروني للتو أنك فزت بجائزة نوبل.

ومن وقتها وإلى الآن لم يتوقف هاتف المنزل عن الرنين، فالرجل الذي اكتشف النجوم النابضة أصبح ملء السمع والبصر، رغم فوزه بالجائزة قبل نحو ربع قرن من اليوم.


التقت «الرؤية» العالم جوزيف تايلور، ليشرح رؤيته عن الحياة والمستقبل ودور العلم في الحفاظ على نوعنا البشري ومواجهة السنوات الصعبة التي يتوقع أن تواجه مسار البشرية في المستقبل، فضلاً عن فلسفته في التعامل مع العلوم، وعلاقة العلم بالدين.


•أنت أحد أبرز العلماء الذين نظروا إلى الكون وتفحصوه بدقة حتى حصلت على جائزة نوبل.. هل يكون مستقبلنا في كواكب أخرى؟

بالتأكيد لا.. فأنا لا أعتقد أن الدلائل الحالية تُشير إلى احتمالية هجرة البشر خارج كوكب الأرض. نعم البشرية تعاني من أزمات عديدة، وهذا أمر واقعي وحقيقي، لكن ثقتي في العقل البشري بلا حدود، فهو قادر دوماً على ابتكار حلول خلاقة لإنقاذ البشرية، أما فكرة الهجرة بعيداً عن كوكبنا، فلست من المتحمسين لإمكانية حدوثها أصلاً، فنحن كبشر لدينا فرصة حقيقية للاستمرار هنا على هذه الأرض، والرهان الذي ربحته البشرية عبر التاريخ في مواجهة التحديات المعقدة، لا يزال أمامنا فرصة لنربحه مرة أخرى.

• في تقديرك كيف يمكن أن يكون شكل المستقبل خلال العقود القادمة مع التحديات التي تواجه العالم؟

سأخبرك بوضوح بوجهة نظري، نعم لدي قلق عميق تجاه المستقبل، فهناك مشكلات ضخمة تتزايد مثل تغير المناخ وزيادة التصحر وارتفاع معدلات الفقر، وكذلك شح المياه وتناقص الموارد الطبيعية التي يمكن للإنسان الاعتماد عليها.. كل هذه أمور واقعية، لذلك أعتقد أن العالم مقبل على «سنوات صعبة» بالفعل، فهذه ليست تحديات عابرة.. هذه مشاكل أساسية تواجه الجنس البشري كله.

• وهل تعتقد أن البشر يستطيعون حل تلك المشكلات؟.. هل ما زلت متفائلاً؟

أعرف أن هناك مخاوف من عدم قدرة البشرية على الاستمرار.. أتفهم ذلك جيداً، لكنني واثق تماماً في قدرة العقل البشري على حل المشكلات، وواثق في استمرارية الجنس البشري وإن كان الأمر يحتاج لمجهود كبير، رغم هذه الثقة أتحدث بوضوح عن الصعوبات التي قد تواجه البشر في المستقبل، الصعوبات التي ستجعل حياتنا السهلة حالياً أكثر صعوبة، سوف تؤثر بالسلب على مستويات رفاهية الإنسان في المستقبل، كل هذه حقائق صعبة، لكنها بالتأكيد ليست نهاية البشرية، فلدينا ما يمكننا فعله على المستوى العالمي لإنقاذ الكوكب وبالتالي إنقاذ أنفسنا.

• كيف يمكن أن تكون الحلول في نظرك؟

لا بديل عن التكاتف الدولي لمواجهة هذه الأزمات. رهاني أن البشر قادرون ـ في لحظة الخطر ـ على إنجاز شيء عظيم للإنسانية، لننظر لتاريخ الإنسان ونتعلم: كم واجه البشر من «أوقات صعبة» هددت وجودهم ومستقبلهم؟ واجه الإنسان الطاعون والأوبئة والعصر الجليدي ولم يكن لديه كل ما لدينا من معرفة وتكنولوجيا، ورغم ذلك نجح الإنسان في الماضي السحيق في الاستمرار، ووصلت البشرية جيلاً فجيل إلى زماننا الحالي، ولو أن البشرية استسلمت للشك في قدراتها على التكيف والبحث عن الحلول، لما كنا الآن نجلس ونتحدث عن المستقبل أصلاً.

أعتقد أن البشر حالياً أمام مهمة تاريخية لإنقاذ أنفسهم، فالعالم الذي نعرفه تغير وعملية التغيير سريعة للغاية، ونحن متأكدون الآن من كوننا مقبلين على «سنوات صعبة»، ربما لا توجد دولة في العالم إلا وتدرك هذا الأمر ولو بدرجات متفاوتة. فالجميع يشاهد بعينه آثار التغير المناخي، والجميع، على الأقل العلماء في معاملهم، يفكر في الحلول، لكنها لا تزال مجهودات تحتاج إلى تكاتف على مستوى العالم كله، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن التحدي هو كالتالي: إما أن ننجح معاً.. أو ننتهي معاً.


• وما هو دور العلم في حل أزمات المستقبل.. هل المسائل كلها مرتبطة بإرادة السياسيين؟

لا.. السياسيون بالتأكيد لهم دور ـ سلباً وإيجاباً ـ في تحديد شكل ودرجة التكاتف الدولي.. هذا أمر طبيعي، لكن دورهم إجراء أولي وهام.. أما العلم فهو الملاذ الأخير للإنسان، فنحن أبناء عقولنا، والمنجز البشري الضخم في مجال العلوم ليس مجرد رفاهية. نحن الآن نتحدث عن ذكاء اصطناعي يقفز بالبشرية للأمام، وأدوية مناسبة لكل فرد يعكف العلماء عليها، وابتكارات متلاحقة في مجال التكنولوجيا والفضاء والصحة والزراعة والتصنيع.. كل هذه المنجزات هي «أسلحة البشرية» الحقيقية لمواجهة المستقبل، لذلك يقع العبء العملي الأكبر عليهم، وهو دور شديد التعقيد والأهمية أيضاً.

العلماء هم رأس مال البشرية لمواجهة الأخطار القادمة.. نعم معظم الأخطار التي تواجه البشر هي نتيجة مباشرة لأفعالهم على مدار عقود طويلة، لكن ثقتي غير محدودة في قدرة هذا الكائن الذي واجه كل شيء تقريباً، في تخطي الصعاب والقفز فوق الحسابات الجامدة وابتكار حلول، فالسياسيون قد يتخذون القرار نعم، لكن القول الفصل بالتأكيد لأولئك الذين يرتدون المعاطف البيضاء، ويجلسون في المختبرات للإجابة على أسئلة المستقبل في مواجهة الطبيعة التي أغضبناها لدرجة مخيفة.


• وكيف يمكن أن نربح رهاناً على المستقبل رغم كل المشاكل الحالية؟

الرهان على المستقبل، هو رهان على قدراتنا الفريدة كبشر. العقل البشري ليس مصمماً فقط للتعامل مع الحاضر والبكاء على الماضي. العقل البشري قادر بالفعل على إنجاز أشياء عظمى، فليس منطقياً أن ينجح البشر في مواجهة كل الظروف والتحديات حتى وهم بمستوى معرفي أقل، ونخشى الآن على أنفسنا من الانقراض رغم كل ما نملك من موارد.

• إذن هل هناك ضوء بعد السنوات الصعبة التي ذكرتها؟

أتوقع أن «ثورة علمية مقبلة»، فعدد الباحثين والأوراق البحثية الموجود، يعتبر طفرة في تاريخ الإنسانية، ولدينا حالياً شبكة معرفية أكثر اتساعاً، فهناك من يواجهون الأمراض المستعصية مثل السرطان والزهايمر وهناك من يسعون لتحسين حياتنا بالاعتماد التكنولوجيا.. شيئاً فشيئاً سيتغير هذا العالم بالكامل. والجيل الجديد ربما ينظر إلى الشباب اليوم ويندهش كيف عاش الإنسان في هذه الظروف وبتلك التكنولوجيا العتيقة.. هذا ما يفعله الزمن، كل جديد الآن يصبح قديماً بعد بضع سنوات، فما بالنا بالمستقبل بعد عقود؟

• ما دمنا نتحدث عن الزمن.. لنعد للوراء حتى 1993 وحصولك على جائزة نوبل لاكتشافك «النجوم النابضة».. فما هي هذه النجوم؟ وكيف بدأت رحلتك لهذا الكشف؟

النجوم النابضة هي أجرام سماوية ذات كثافة مهولة، فإذا ما كان حجم النجم النابض ككرة تنس؛ تبلغ كتلته حوالي ضعف كتلة كوكب الأرض تقريباً. تومض النجوم النابضة بشكل متقطع، نتيجة دورانها حول نفسها. إذ تنطفئ وتومض مراراً وتكراراً، بصورة جعلتها تُشبه القلب البشري الذي يدق بإيقاع منتظم. لكل نجم نابض «نغمة» خاصة به، تعتمد على سرعة دورانه ومحور الدوران.

أما كيف وصلت لهذا الكشف فدعني أخبرك القصة. حين حصلت على درجة الدكتوراه في الفلك من جامعة «هارفارد» عام 1968. كنت متخبطاً وقتها ولا أعلم ما سأفعله في المستقبل. كان مستقبلي مجهول تماماً. شغفي بالنجوم دفعني لترك الوظيفة في هارفارد والانتقال لجامعة ماساتشوستس. وهناك؛ أصبحت مديراً مساعداً لخمس مراصد، فأنا شخص يحب النظر للكون حقاً.

وأثناء مطالعتي لإحدى الأوراق العلمية، وجدت دراسة عن اكتشاف أحد النجوم النابضة. كانت الورقة مُلهمة؛ وفي عام 1974 تمكنّا من اكتشاف أول نظام ثنائي لنجم نابض.


• في ستينات القرن الماضي كانت النجوم النابضة غريبة للغاية.. عكس الآن.. ما الذي دفع عالماً شاباً في مستهل حياته لدراسة أمر غريب؟

المرح.. نعم المرح، فقد وجدت نفسي منجذباً لدراسة ذلك الأمر الغامض، وأنا رجل تستهويني الأشياء الغامضة، وكنت محظوظاً حين وافقت إدارة الجامعة على تمويل أبحاثي. وحين استمعت لصوت النجوم لأول مرة شعرت أنني متوحد مع الكون، وأدركت أن البشر والكون متصلون بخيط خفي، وأننا نأتي من الأصل نفسه.

• وهل كنت تخطط لذلك الاكتشاف الضخم؟

بالطبع لا. الاكتشافات العلمية تأتي في أوقات غير متوقعة، لا يُمكن للعالم أن يذهب إلى معمله في الصباح ويصنع قهوته المفضلة ويقول «سأقوم باكتشاف اليوم»! لم تكن هناك خطة فقط كان الحظ حليفي.

• كيف كان شعورك حين تلقيت خبر الفوز بجائزة نوبل؟

الصدمة والدهشة. كنت نائماً حين رن هاتف المنزل، وأنا لا أحب الاستيقاظ للرد على الهاتف. قامت زوجتي بتلقي المكالمة، ثم صعدت للغرفة لتزف الخبر، قالت لي إن صحافياً على الهاتف ويريد أن يخبرني أنني فزت بالجائزة، وأن يومي سيكون طويلاً، قمت من السرير وأنا مصدوم.

• تتحدث كثيراً عن علاقة الدين بالعلم.. هل تجد أي تناقض أو تضارب بينهما؟

لا.. فالعلم يتعلق بالدليل والدين يتعلق بالإيمان. الحقيقة أنني محظوظ، كونى وجدت مخرجاً يفصل بين قناعاتي الدينية والعلمية. أجد في الدين السلام الداخلي، اعتقادي بوجود قوة عظمى تحكم الكون تضبط إيقاع حياتي، إيماني المطلق بوجود رب يجعل مفاهيم العدالة جلية أمام ناظري. أنظر لكم الظلم الموجود في العالم من حولنا، هل يُمكن أن يفلت الظالمون من العقاب؟ لولا وجود الله في مخيلتي لكنت عانيت من الإحباط والألم وكراهية العالم. في تصوري الله موجود، وكل شخص سينال الجزاء، سواء كان الجواب عقاباً أم ثواباً.

أم العلم؛ فهو الدليل، هو ذلك الطريق الذي يمهد للبشرية مصاعب الحياة. لا يُمكن أن أجد أبداً تضارباً في وجود شيئين جيدين في الآن ذاته، ولا يُمكنني تخيل العلم دون دين، ولا الدين دون علم. الحقيقة أن العلم والدين وجهان لعملة واحدة، صنوان لا يفترقان، كلاهما خير مُطلق، وكلاهما يريد الخير للبشرية، والسعادة للإنسانية.

الدين يتعلق بالروح. طريقة خفية ترشدنا للمواقف الأخلاقية. العلم تجريدي وتجريبي ولا يُمكن بأي شكل من الأشكال مقارنته بالدين. الحقيقة أنني سعيد أنى لا أجد أي صراع بين العلم والدين، فأنا أعتقد أن روح الله موجودة في كل إنسان وأن الدين سر من أسرار الله، وأن الاكتشافات العلمية هي اكتشافات دينية أيضاً تقربنا إلى الله أكثر.


• ما هي نصيحتك للباحثين الشباب؟

ادرس ما تحب.. اعمل بجهد.. وإذ كنت في منتصف طريق ولم تجد ضالتك أو فقدت شغفك غير اتجاهاتك، وابحث عن الشغف.

• هل يُمكنك أن تُقيم البحث العلمي في المنطقة العربية؟

الحقيقة أن معلوماتي عن البحث العلمي في المنطقة العربية شحيحة. لكن أعرف أن العديد من الجامعات الكبرى لها فروع في الدول العربية، وهذا شيء جيد. فالعرب حملوا مشعل الحضارة والتنوير لقرون، وسيكون لهم دور في المستقبل إذا انتهجوا طريق العلم والديمقراطية.

• ما هي نصائحك لمن يمولون البحث العلمي؟

دون العلم لا يوجد تقدم ولا حياة. بلا علم لا أمل في التنمية المستدامة. دون العلم لا يُصبح للحكومات أي جدوى. فالجهل خطير، لا تقل خطورته عن المرض أو الفقر وربما تزيد.