الثلاثاء - 19 مارس 2024
الثلاثاء - 19 مارس 2024

من أين ندخل إلى التسامح؟.. خريطة طريق لـ «إنسان عربي جديد»

ببوصلة وجهتها الدخول إلى «مملكة» التسامح، ينطلق محمد وردي في مسيرة «الألف ميل»، مُعَبّداً طريقه بأدوات معرفية وفكرية منفتحة، ومُعالجاً موضوعه بمنظور معرفي، تاريخي، فلسفي، نفسي، اجتماعي؛ وكأنَّه يضع خارطة طريق للوصول إلى «إنسان عربي جديد»، من دون هدم الجسور بين الأصالة والمُعاصرة، فهو يذهب إلى حقبة الجاهلية قبل الإسلام نافياً جاهليتها على المُستوى الأخلاقي، لا سيما «مكارم الأخلاق»، فيستعرض عدداً من محطاتها المُضيئة التي استمرَّت وتكرَّست مع ظهور الإسلام، ثمَّ ما لبثت أن خَبَت وضلَّت سبيلها عبر مراحل التاريخ، وصولاً إلى اللحظة الراهنة.
وبجُرأة الباحث، يدخل خبايا مسألة التخلف العربي الإسلامي المعاصر، وحال اغترابه وانفصاله عن الوقع المعيش، فينظر إلى هذه المسألة من زاوية خارجة عن المألوف، مُسائلاً مناقشاً مُنتقداً، ليتوصَّل في النهاية إلى «شيفرة» الدخول لـ«مملكة» التسامح. ذلك لأن الولوج إلى هذه «المملكة» واختراق أبوابها غير ممكن؛ إلا بتكوين شخصيَّة عربية مُبدعة وناقدة، انطلاقاً من حيازة مفاتيح أبوابها الأربعة: العقل الفاعل، ثقافة الجمال، ثقافة الحب، وثقافة الصداقة.

ولكن مَن يُمكنه تكوين هذه الشخصيّة المُبدعة والناقدة، وكيف؟ هل باستنساخ التجربة الغربية المعاصرة اعتماداً على أدبياتها التي تُنَظّر في حقوق الإنسان والمواطنة الحديثة، أم على كنوز تراثنا الزاخر بالقيم الأخلاقية منذ المرحلة «الجاهلية»، بعيداً عن التمجيد، والتجميد الآسِر للعقل، والمُقدّس للنقل، والمانِع من مواكبة العصر وفهمه وتفسيره وفق فقه الواقع؟ وأين الدور الذي يُمكن أن تلعبه في ذلك مؤسسات التنشئة الاجتماعية والدولة والمجتمع المدني؟

- مفاهيم البحث:

يبدأ الباحث بتجميع عدَّته المفاهيمية وتعريفها ووضعها على مشرحة البحث، ومن أبرزها:

- المشتركات الإنسانية، التي تفتح آفاقاً غير محدودة؛ لتلمُّس إنسانيتنا من خلال الآخر.

- العقل الذكي المتلهف للمشتركات الإنسانية.

- الأنسنة، التي هي نتاج للعقل؛ إذ تجعل الإنسان سيد نفسه في سلوكه وممارساته؛ من دون جنوح إلى التوحش أو العدوان على الآخر.

- التآخي الإنساني، الذي يندرج مفهوم التسامح ضمنه.

- التسامح، الذي يُعتبر قيمة تتقدَّم القيم الإنسانية المشتركة، ويختزل مفهوم التآخي الإنساني، كما أنَّه المعيار الأول لأنسنة الإنسان، وقيمة أخلاقية سلوكية في جوهرها، ونزعة يكتسبها الإنسان بالوعي المميز أو النابه.

- الحرية، التي تُشكّل «دينامو» الحداثة، وتتلاءم مع تطلعات الإنسان إلى السعادة والرفاهية، وصولاً إلى عولمة كونية. وهي منتج للعقل، ويُفترض بها أن تكون أرقى أشكال الأنسنة التي يطمح إليها العقل.

2- العولمة المتوحشة:

يرى وردي أنَّ واقع العولمة اليوم، يميل إلى التوحش والهيمنة والاستحواذ بالقوة والعنف؛ بأبشع صور عرفتها مسيرة الإنسان وأعنفها في التاريخ، لكنَّه جرى تجميلها بشعارات «الحرب العادلة» أي شعارات الانتصار لقيم الأنسنة، مثل الديمقراطية، الحرية، حقوق الإنسان.. فجاءت نتائجها مُناقضة لِشعاراتها (لا مساواة بين الأفراد - فرض الهيمنة الثقافية على الآخر الضعيف من خلال تصدير الديمقراطية والفوضى الخلاقة؛ كعملية تفكيك وإعادة تركيب بالقوة؛ من دون الرجوع للأمم المتحدة - سلوك استهلاك بوعي أو دون وعي، ما حال دون الأنسنة؛ لأنّها دفعت إلى الطمع والجشع وفي تشيئ الإنسان، وجعله سلعة في السوق الذي يخضع لقانون العرض والطلب).

صحيح بأنَّ العولمة حاجة إنسانية ملحة، ولكن لا خيار أمام البشرية إلا بعقلنتها أو أنسنتها بحسن إدارة الاختلاف، والارتقاء بقيم الحوار إلى مستوى تأطيره فكرياً وفلسفياً في برامج ومنهجيات علمية؛ لتضع أسساً عقلانية؛ لتفعيل «قيم التسامح».

3- مستويات التسامح:

على المستوى النظري، تدرَّج التعبير عن مفهوم التسامح بمصطلحات عدة منها «الضمير» (الفراعنة) «الفضيلة الأخلاقية» (اليونان، الرومان، الحضارات الشرقية)، «الإخاء الديني» (اليهودية، المسيحية)، أضيفت إلى هذه المفاهيم «الحق والعدل» (الإسلام)، واستقر المفهوم بصيغة القبول والاعتراف بالمساواة الندية المتكافئة في الحقوق والواجبات وحماية الحريات وصيانة الكرامة الإنسانية، ورعاية التنوع والتعدد واحترام الاختلافات الثقافية بكل وجوهها الدينية والعرقية واللغوية والفكرية والسياسية.

أمَّا على المستوى العملاني، فيمكن إخضاع التسامح لمبدأ النسبية الاجتماعية، فقد مرَّ خطاب التسامح بقطائع معرفية متلاحقة أنتجها الإنسان خلال تاريخه الطويل، ففي مراحله الأولى تطور التسامح مع المختلفين دينياً. وقد عرض الباحث عدداً من نماذج التسامح في المراحل المختلفة من التاريخ الإنساني: النموذج الروماني واليوناني والفرنسي والانجليزي، ليصل إلى عصر النهضة التي قامت على أساس الازدهار الاقتصادي وانتعاش العلوم الإنسانية، حيث شكلت المحور الأساس في أنسنة الدين وانتصار العقل وتحرير الجسد من وزر الخطيئة بالانقلاب على سلطة الكهنوت، والتأسيس لفكرة الإصلاح الديني.

4- «الجاهلية» قبل الإسلام ليست بجاهلية:

من خلال تحليله لعدد من النصوص والكتابات، يرى وردي بأنَّ «الكرم» عند العرب قبل الإسلام وفضيلة إطعام الطعام كان سلوكاً يمارسه الجميع، كونه ينم عن معاناة مع الجوع في محيط «صحراء قاسية، نهارها حر، وليلها قر، وريحها صر».

5- التسامح في الإسلام:

مع ظهور الإسلام أصبح للتسامح ثقافة متكاملة ثلاثية الأبعاد: توصيف العلاقة الندية مع الآخر، الاعتراف بالتعددية الدينية، تأكيد مبدأ الحوار. والإسلام اعتبر أنَّ «الكرامة الإنسانية» هي أول مشترك إنساني وهي سابقة على «الكرامة الإيمانية»، وأنَّ التعدد هو سنة كونية، وقد مثَّلت «صحيفة المدينة» إطاراً ناظماً لترسيخ ثقافة التسامح من خلال التأسيس للتعددية الاختيارية، وبناء عقد اجتماعي يقدّم مصالح التضامن والتعاون في شكل حقوق وواجبات، أمَّا الحوار فهو واجب ديني وضرورة إنسانية، فبالحوار يتحقَّق التعارف والتعريف، وهو مفتاح لحل مشاكل العالم.

يشير وردي بأنَّ مسيرة التسامح واجهت عقبات وعثرات، فتاريخنا ليس بمجمله صفحات مضيئة، بل تخلَّلَته صفحات مظلمة.

6- مفاتيح الأبواب الموصدة:

يرى وردي بأنَّ خطاب التسامح هو قيمة أخلاقية مكتسبة، ويمكن تطويره من خلال مستويات أربعة:

أ- تطوير العقل: يواجه العقل بصورة عامة مشكلة الصور النمطية الذهنية الراسخة في اللاوعي، نتيجة التلقي التلقيني (التلقين الأبوي، المدرسي، المجتمعي)، وهذه النمطيات تلعب دوراً فاعلاً في إصدار أحكامنا القيمية أو الأخلاقية. من هنا لا بد من تطوير عقلنا وهذا مرهون بحيازة الملكات النقدية التي لا تتشكل وتنمو إلا عن طريق «العلوم الإنسانية» التي تساعدنا على اكتشاف إنسانيتنا وتسمح لنا إمكانية مراجعة منتجات العقل، وعلى رأسها منظومة القيم، ومنها قيمة التسامح. فالعقل النقدي هو القادر على تفكيك النمطيات الذهنية السائدة ومراجعة المألوف من المدركات المعرفية.

ب- ثقافة الجمال: فقيمة الجمال هي من أنبل تمظهرات خطاب التسامح وأكملها، ويجب تعميم هذه الثقافة التي تقوم عليها هندسة الإنسان والوجود، وعمود خيمتها هي منظومة القيم الأخلاقية، فالجمال هو الإطار الذي تتكون فيه الحضارة.

ج- ثقافة الحب: إنَّ قيمة الحب هي من أجمل تمظهرات خطاب التسامح، وتشكل خلاصة التعايش السعيد بين البشر وجنة التلاقي الإنساني، فالحب هو جوهر ثقافة التسامح ويختزل الأنسنة بكل قيمها.

د- ثقافة الصداقة: هي حاجة إنسانية مُلحَّة وهدف جوهري يسعى إليه العقل الذكي لأنَّها جزء من مكونات المنظومة الأخلاقية وتلعب دوراً بالغاً في التوازن النفسي.

7- استعادة العقل العربي الفاعل:

يرى وردي بأنَّ العقل الذكي العارف الفاعل يستجيب للتحديات، بعكس العقل الذي تمَّ تغييبه واختطافه تحت وطأة النقل فجعله يصاب بالعجز والقصور عن التفكير النقدي الخلَّاق. من هنا كانت الدعوة لتجديد الخطاب الإسلامي على أسس عقلانية مؤنسنة واستعادة البعد الأخلاقي الإنساني الاصيل وتعميم ثقافة التسامح.

والتجديد الديني يقتضي الأخذ بكل جديد؛ لمواكبة الواقع المعاصر والتغيرات المستمرة، وضرورة العمل والتفكير وفق فقه الواقع؛ بالاستجابة لتحديات وتغييرات الزمان وشروط المكان، وبعيداً عن التمجيد والتجميد وعيش الحاضر بعقلية ماضوية.

8- الشخصية المستقلة مرتكزاً أساساً لاستنبات قيم مكارم الأخلاق:

إنَّ تنمية الشخصية المستقلة تلعب دوراً في استنبات قيم مكارم الأخلاق وفي مقدمتها قيمة الإباء. ويرى وردي بأنَّ المسؤولية تقع على عاتق الأسرة تليها الدولة ثم المجتمع.

من هنا ضرورة العودة إلى ما قبل المناهج التعليمية بغرض القيام بمراجعة جذرية لمفاهيم التنشئة الأسرية لإنتاج شخصية منفتحة على ملكات العقل النقدي والعمل على غرس قيمة الإباء والأنَفة والرفعة التي تشكل اللبنة الأولى لبناء الشخصية المستقلة (ضرورة تنظيم وقت الطفل – تجنب العاطفة المبالغ فيها – عدم الاستجابة المطلقة والعمياء لمطالب الطفل – عدم الإفراط في الأوامر والنواهي [العيب، الحرام، الاحترام المبالغ فيه، الطاعة العمياء دون نقاش] – ضرورة الحوار بنديَّة...).

أمَّا دور الدولة فلا يقل أهمية عن الأسرة (جذب الطلبة المتفوقين في العلوم الإنسانية وتقديم حوافز ومكافآت على مستوى إبداعاتهم – تشكيل هيئات لمتابعة أحدث الدراسات والتجارب الإنسانية والاستفادة منها في تحديث أساليبنا في التنشئة الأسرية – رعاية الدولة لمخيمات الكشافة – تسليط الضوء على الأنشطة الشبابية ودعمها – التشريعات المختلفة لحماية الأطفال والنساء – القيام بعمليات التنمية المستدامة لحفظ التوازن العام في المجتمع – محاربة الفساد لأنَّه يقتل قيمة الإباء ويضع من النفس ويعلمها المذلة والخنوع ويغرس بذرة العبودية...) ما يساهم في الفهم المبكر لمسألة الهوية والاعتزاز بالانتماء للوطن. أمَّا دور المجتمع الأهلي فعليه القيام بدور المتابعة للسلوك الاجتماعي العام.

وفي الختام، فإن محمد وردي يسبح في كتابه هذا بعكس التيار، فقد قام بـ «تبيئة» مفهوم التسامح عربياً من خلال مدّ الجسور بين الماضي والحاضر، كاشفاً عن جذور عميقة لهذا المفهوم في الثقافة العربية القديمة، كما في الدين الإسلامي. وقد استند في تحليله إلى وقائع ميدانية محلية معيشة، بعيداً عن التنظير أو الغرق في فضاءات المفاهيم والأدبيات الغربية أو العالمية المُعاصرة؛ وبذلك يكون طرحه لمفهوم التسامح من هذه الزاوية طرحاً جريئاً، كونه ولج لأعماق هذا المفهوم بتناقضاته التاريخية، بعيداً عن الأحكام المُسبقة، مُسائلاً وناقداً ومُحللاً بـ«عينين مفتوحتين»، ومستخلصاً حيويّة هذا المفهوم ونسبيّته نظراً لانتمائه «إلى المعيش في الحياة اليومية والعملية».