يمكن تصنيف فيلم زعتر الجبل البري Wild Mountain Thyme بأنه فيلم من زمن آخر، زمن ما قبل كورونا وفوضى السوشيال ميديا وانتشار الإنترنت وظهور الفضائيات واندلاع الحرب العالمية الثانية! تشعر، وأنت تشاهد هذا الفيلم، أن أحداثه تدور منذ 70 أو 80 عاماً، وأن هذه الجزيرة الأيرلندية البدائية النائية التي تدور فوقها الأحداث يصعب أن تكون موجودة بهذا الشكل الآن، وأن هذه الشخصيات البريئة، كما ولدتها أمهاتها، لم يعد لها وجود في عالم اليوم. ولولا أن بطلة الفيلم «روزماري» (إيميلي بلانت)، تنتقل فجأة، بالقرب من نهاية الفيلم، إلى نيويورك سيتي ليومين، فنرى ناطحات السحاب ومعالم المدينة الحديثة فندرك أن أحداث فيلمنا لا تدور في الماضي البعيد وأن هناك بالفعل -على الأقل كما يتخيل المخرج والكاتب جون باتريك شانلي- مثل هذه أماكن ومثل هؤلاء البشر! يدور «زعتر الجبل البري» حول قصة حب رومانتيكية بقدر ما هي غريبة وكوميدية بين اثنين يتصادف أنهما آخر فرد في عائلتين كبيرتين متجاورتين من ملاك الأراضي الزراعية، الشابة هي «روزماري» القوية الشجاعة، المتمسكة بتقاليد الريف والمحبة للحياة التقليدية البسيطة، والشاب هو «أنطوني» (جيمي دورنان). «روزماري» تعيش مع أمها الأرملة (دربلا مولي)، و«أنطوني» يعيش مع أبيه الأرمل (النجم كريستوفر والكن في عودة بعد غياب طويل إلى الشاشة). «روزماري» تتبادل و«أنطوني» الحب منذ الصغر، ولولا أنه خجول غريب الأطوار، ولولا أنها خجولة لا تملك جرأة أن تعرض عليه الحب، وهكذا تمر السنوات، ويموت آخر الكبار ولا يبقى غيرهما على تلك الأرض الخضراء الشاسعة. أجمل ما في الفيلم هو التصوير الذي يبدو كلوحات فنية تلتقط روح هذه القرية الأيرلندية، فكأنك سافرت إليها والتقيت سكانها، وشربت معهم وأكلت من يخنة الزعتر البري التي يتميزون بصنعها. وتضفي الموسيقى والأغاني الأيرلندية الشبيهة بأشعار الرعاة والتي تعتمد على آلات القرب والناي الأيرلندي الشهير سحراً خاصاً، بل إن عنوان الفيلم مقتبس من إحدى الأغاني التي تتردد عبر الفيلم، وتتغنى بجمال الحياة الريفية. ويتميز الفيلم أيضاً بالمشاهد الكوميدية الصاخبة، مثلما يحدث عندما يجري أنطوني «بروفة» عرض الزواج مع حمار، ويراه أحد عجائز القرية فيفضحه مشيعاً أنه يحب الحمارة، أو الحوار الطويل الذي يدور بين البطلين في بيتها بالقرب من نهاية الفيلم. يصور «زعتر الجبل البري» صعوبات الحياة في هذه القرية المهجورة المحرومة من كل رفاهيات الحياة الحديثة، حيث تمطر السماء طوال العام، ولا تشرق الشمس إلا نادراً، وحيث يعيش المرء جنباً لجنب مع الحيوانات الطيور والحشرات، المفيدة أحياناً، والضارة أحياناً، حيث الوحدة والنهارات القصيرة والليالي الموحشة. تستطيع أن تستشعر ذلك من خلال الفيلم بشكل غير مباشر، لكن صناع الفيلم يؤكدون المرة تلو الأخرى، بانتماء قومي يليق بالأيرلنديين، أن هذه البقعة من الأرض هي الجنة! في زمن الكورونا والأوضاع الاقتصادية المنهارة، يبدو «زعتر الجبل البري» مهرباً خيالياً مناسباً، خاصة لأصحاب القلوب الرومانسية الحالمة، إذ يغادرون عالم الأزمات ويقضون نحو ساعتين إلا ربعاً، في جزيرة أيرلندية بعيدة وسط شخصيات ودودة، جذابة، ومضحكة. لكن هذا «المهرب» تعكره للأسف بعض العيوب الفنية وعلى رأسها افتقاد علاقة إيميلي بلانت وجيمي دورنان للكيمياء السينمائية التي يجب أن تتوفر بين ثنائي التمثيل في أفلام الحب، وهذه الكيمياء ليس لها قواعد محددة، بقدر ما هي نتاج لتفاعل سري غامض بين عنصرين، وليبين الفرق نذكر دي كابريو وكيت وينسلت في «تايتانيك» أو أنطوني هوبكنز وإيما طومسون في «بقايا النهار» أو ميشيل فايفر ودانيل داي لويس في «عصر البراءة» أو عمر الشريف وفاتن حمامة في «نهر الحب».. والأمثلة أكثر من أن تحصى. هذه الكيمياء السحرية مفتقدة بين بلانت ودورنان، وليس لذلك علاقة بتمكن كل منهما من أداء دوره بإجادة، ومن الغريب أنها موجودة بين العجوزين كريستوفر والكن ودربلا مولي رغم ظهورهما القصير على الشاشة. المشكلة الثانية تتعلق بالسيناريو، وبالتحديد عدم وجود سبب واضح يمنع الاثنين من الشروع في علاقتهما العاطفية، ورغم أن الفيلم يذكر أسباباً، لكن أي منها غير مقنع، فمرة لأن «أنطوني» يفقد خاتم الزواج الذي أعطاه له أبوه، ومرة لأنه لا يثق بنفسه بالقدر الكافي، ومرة لأنه يعاني من هلاوس يعتقد بسببها أنه نحلة وليس إنساناً! ويزيد من تأثير المشكلة أن كل هذه الأسباب الواهية، بل السخيفة أحياناً، تتعلق بـ«أنطوني» فقط، بينما «روزماري» مولعة في حبه منذ طفولتها، دون أن نعرف لماذا، حتى أن المشاهد قد يشعر أحياناً، بسبب حماقة «أنطوني» ورفضه المستمر لها، بالغضب منه والدهشة من إصرارها على التمسك به.







«الثمانمئة».. السينما الصينية تنتصر على كورونا وهوليوود!
على مدار أسابيع، ومنذ بداية عرضه لا يزال، فيلم «الثمانمئة» يتربع على قمة أفلام السنة الكبيسة 2020، محققاً إيرادات عالمية فلكية بالنسبة للسينما الصينية، بالإضافة إلى الإيرادات الفلكية التي حققها في الصين نفسها، والأهم أنه مع فيلم «مولان» الذي حقق أيضاً إيرادات عالمية فلكية، يحملان إشارة واضحة لمستقبل صناعة السينما خلال العقد القادم، والذي يتوقع أن تشغل الصين مساحة هائلة منه.
فيلم «الثمانمئة كما يدل عنوانه، يحمل معارضة واضحة لفيلم «300» الأمريكي الذي يدور حول تصدي 300 محارب إغريقي للغزو الفارسي ببسالة أسطورية سجلها التاريخ، كذلك يسجل الفيلم الصيني واقعة تاريخية حقيقية، حدثت أثناء الغزو الياباني للصين في 1937، قبيل الحرب العالمية الثانية.

لأسباب كثيرة استطاعت القوات اليابانية محدودة العدد أن تهزم جيشاً يفوقها بعشرات المرات، وشعباً يصل تعداده لمئات الملايين، وقتها، وقد انسحب الجيش الصيني وانحسرت المقاومة الشعبية إلى آخر نقطة على حدود شنغهاي، داخل أحد المباني المهجورة، حيث يتجمع أقل من 600 مقاتل، بعضهم مصاب، وبعضهم هارب من الخدمة، والبعض الآخر صبية صغار، ويتخذون من المبنى حصناً أخيراً ضد هجمات اليابانيين الذين يصل عددهم لـ20 ألف مقاتل، مسلحين بالأسلحة الثقيلة.

ينجح الصينيون في الدفاع عن حصنهم لأربعة أيام متتالية، قبل أن يقوموا بعبور جسر «محايد» نصبته القوات الدولية لكي يعبروا فوقه إلى الجانب الآخر حيث مستعمرات الأجانب أصحاب الامتيازات. هذا الجسر الفاصل بين عالمين متناقضين، يشبههما أحد شخصيات الفيلم بأنهما مثل النعيم والجحيم، لكن في النهاية يستطيع سكان الجحيم بشجاعتهم ووطنيتهم المستميتة في لفت أنظار وكسب تعاطف أصحاب النعيم، حيث تتحول هذه المعركة إلى مثل ونموذج لبقية الوطنيين.

ملحمة سينمائية
أفلام كثيرة تناولت قصصاً مشابهة عن الجماعة المحدودة العدد التي تتصدى لعدو يفوقها عدداً وعتاداً، وهي بطولات موجودة في كل أمة وحرب. ولكن الرهان في «الثمانمئة» ليس على القصة فحسب، ولكن بالأساس على صنع ملحمة سينمائية تليق بالقصة، ويمكنها منافسة أكبر الملاحم الهوليوودية المماثلة، وقد نجح صناع «الثمانمئة» في ذلك الرهان إلى حد كبير.
استغرق صنع هذا الفيلم 10 سنوات من عمر وجهد المخرج جوان هو، الذي قدم من قبل عدداً من الأعمال متوسطة النجاح، وتكلف ميزانية تقدر بنحو 80 مليون دولار، ليصبح أكثر الأفلام كلفة في تاريخ السينما الصينية، وهو أول فيلم صيني يصور بالكامل بعدسات آي ماكس، ليعرض على الشاشات العملاقة.

ويحتوي الفيلم بالفعل على كمية إبهار تقني كبيرة، من ناحية الصورة والصوت والمؤثرات الخاصة، وعلى معارك مصممة ببراعة، والأكثر من ذلك كله على ديكورات وتصميم مناظر تم بناؤها على مساحة عملاقة يظهر فيها عشرات الممثلين ومجاميع بالمئات، تعطي مصداقية يندر أن توجد حتى في أفلام هوليوود الكبرى.

والمقابل إيرادات تقترب من النصف مليار دولار حتى الآن، ليصبح أكبر أفلام العام، وقد تم توزيع الفيلم في أكثر من 60 دولة، وهو الرهان الثاني الذي نجح فيه الفيلم، الذي شارك فيه فنانون عالميون، وصنع لكي يناسب الأذواق العامة لأي جمهور من أي شعب. إنه قادر على أن يلهب حماس ووطنية أي جمهور يشاهده، وفي الوقت نفسه هو فيلم «مودرن»، حداثي النزعة، لا يجمل الحرب ولا الشخصيات، بل شديد الواقعية فيما يتعلق بوحشية الحرب ودمويتها وردود فعل البشر في مواجهتها.

سيف الرقابة
النجاح الذي حققه الفيلم لم يأتِ بسهولة، ففوق تحديات صنع الفيلم نفسه، تعرض لمشاكل كثيرة عقب الانتهاء منه، أكبرها اعتراض الرقابة الصينية عليه، لأن المجموعة المقاومة كانت تنتمي لحزب آخر غير الحزب الشيوعي، وهو الحزب الذي انفصل عن الصين وأسس دولة تايوان فيما بعد، وهذه الاعتراضات أدت إلى تأجيل عرض الفيلم ومنعه من المشاركة في عدة مهرجانات دولية، كما جاء كورونا ليؤجل عرضه مرة أخرى، إلى أن عُرض أخيراً في أغسطس الماضي بعد تأجيل لأكثر من عام كامل، ولكن تعب صناع الفيلم لم يضع هدراً في النهاية، وها هو الفيلم يتألق في دور العرض المحلية والعالمية.
لا يعيب «الثمانمئة» سوى تركيزه المفرط على الصراع الخارجي، على حساب الاهتمام بالشخصيات ونموها الدرامي وصراعاتها الداخلية، وإن كان لا يهملها تماماً، ولعلّ السبب هو رغبة صناعه في التركيز على البطولة الجماعية، وليس على الأفراد كما تفعل معظم الأفلام الهوليوودية. وهو أمر قد يكون غير معتاد بالنسبة لجمهور السينما الأمريكية، لكنه مفهوم هنا.