الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

«الأب» تجربة سينمائية فريدة.. وأنتوني هوبكنز يواصل إثارة الدهشة والمشاعر

رغم أن أنتوني هوبكنز، في الثمانينيات من عمره، إلا أنه لم يزل قادراً على إدهاشنا وإثارة مشاعرنا، بقدرته المتجددة على التقمص وتجسيد الشخصيات التي لا تُنسى، من الطبيب طيب القلب فريدريك تريفز في فيلم «الرجل الفيل» (1980(، إلى السفاح آكل لحوم البشر في «صمت الحملان» (1991) والجزأين التاليين منه «هانيبال» و«التنين الأحمر»، إلى خادم الأرستقراط المخلص والخجول في بريطانيا القرن الـ19 في «أطلال النهار» (1993)، إلى الجد الأمريكي المعذب بأبنائه في «أساطير الخريف» (1994)، إلى تجسيد شخصيات نيكسون وبيكاسو وهيتشكوك، وغيرها من الشخصيات الخيالية والحقيقية التي برع في أدائها، كما لا يفعل سوى عدد قليل جداً من الممثلين في هذا العالم.

ولد السير فيليب أنتوني هوبكنز في بريطانيا 1937، وعمل ممثلاً مسرحياً ومخرجاً ومنتجاً منذ شبابه المبكر، قبل أن تلتقطه هوليوود ليصبح أحد أعمدة الأدوار الصعبة في السينما الأمريكية والإنجليزية.

حصل هوبكنز على جائزة أوسكار ورشح لثلاث جوائز أخرى، بجانب عشرات الجوائز الكبرى الأخرى، منحته ملكة إنجلترا وسام الفارس. وها هو يرشح للأوسكار الرابع في مسيرته عن دوره في فيلمه الأخير "الأب"The Father الذي يلعب فيه دور رجل مسن يصاب بمرض الألزهايمر ويبدأ تدريجياً في فقدان ذاكرته وهويته.



«الأب» عرض في عدة مهرجانات دولية في العام الماضي، منها «صاندانس» و«تورونتو» و«القاهرة»، وتعثر عرضه العام بسبب ظروف كورونا، قبل أن ينزل إلى دور العرض أخيراً.

الفيلم من إخراج فلوريان زيلر عن مسرحية من تأليفه، كما قام أيضاً بكتابة سيناريو الفيلم (بالمشاركة مع كاتب السيناريو المعروف كريستوفر هامبتون).

ويشارك في التمثيل بجانب هوبكنز الممثلة أوليفيا كولمان، التي حصلت على الأوسكار منذ عامين عن دورها في فيلم"المفضلة" The Favourite كما لعبت دور إليزابيث، ملكة بريطانيا، في مسلسل "التاج"The Crown الذي يعرض على منصة "نتفليكس".

قد تبدو فكرة فيلم «الأب» مستهلكة، إذ سبق تقديمها في عشرات الأفلام والمسلسلات من قبل، حيث يدور الفيلم عن رجل مسن يفقد ذاكرته تدريجياً ويبين معاناته ومعاناة المحيطين به بسبب هذا المرض، ولكن فيلم «الأب» يتمتع بخصائص تخلو منها معظم هذه الأعمال، طبعاً بالإضافة إلى أداء هوبكنز الذي يستحق المشاهدة في حد ذاته.





كثيراً ما يتحدث الناس عن الأمراض العقلية مثل ألزهايمر، ولكن أحداً لا يمكنه تخيل ما يحدث في العقل نتيجة تدهور الذاكرة المتواصل حتى ينسى المرء أسماء أبنائه واسمه هو شخصياً، وهو أمر يختلف عن فقدان الذاكرة المفاجئ، نتيجة حادث مثلاً، لأن المرء يدرك، على الأقل في المراحل الأولى والوسطى من المرض، قدر المصيبة التي يمر بها، كما أن هذه المراحل تكون مصحوبة بأعراض أخرى مؤلمة ليس أقلها الهلاوس التي تنتاب المريض.

يحاول فيلم «الأب» الدخول إلى عقل هذا الأب العجوز، على مدار الشهور التي تشهد انهيار ذاكرته تدريجياً، حيث تختلط الوقائع اليومية بالذكريات بالخيالات، وتتداخل الأحداث والشخصيات فيما بينها وصولاً إلى السقوط في ثقب النسيان النهائي لكل شيء.



وأجمل ما في الفيلم أنه لا يحدثنا «عما» يجرى للشخصية الرئيسية، ولكن يصور لنا «ما» يدور في عقله. وما يدور في هذا العقل مربك، ومخيف، ومؤلم، يفقد فيه العالم صورته المتماسكة المنطقية، ويفقد فيه الفيلم قصته وحبكته وشخصياته التقليدية، ليجد المشاهد نفسه أمام، أو بالأحرى داخل، عقل مشوش يموج بمزق من صور مشوشة.

هذه القدرة على تصوير ما يدور داخل العقل هي ما يميز فيلم «الأب» عن المسرحية المقتبس عنها، أو عن أي مسرحية أخرى، بسبب محدودية الوسيط المسرحي في قدرته على تجسيد الخيالات والخلط بين الأحداث والشخصيات، مع الاعتراف بالطبع بأن المسرح له مزايا لا يمكن للسينما أن تتمتع بها، مثل الحضور «الحي» للحدث والشخصية.





يؤدي أنتوني هوبكنز شخصية الأب الذي يحمل أيضاً اسم أنتوني ببراعة معتادة، ومن شدة هذه البراعة قد يعتقد المشاهد للحظات أن الرجل المسن المريض المعروض أمامه هو أنتوني هوبكنز، وليس أنتوني الشخصية التي يؤديها.

وقد يتساءل المرء في لحظات أثناء مشاهدة الفيلم: هل يمثل أنتوني هوبكنز حقاً، أم أن هذا الرجل العظيم الذي ينهار بفعل الشيخوخة وفقدان الذاكرة هو شخص آخر؟ يحدث هنا نوع نادر من التقمص حيث يتقمص الممثل الشخصية، وتتقمص الشخصية الممثل، ويكمل المتفرج هذه الحالة بأن يتماهى مع كل من الشخصية والنجم الذي يؤديها.





تجربة مشاهدة فيلم «الأب» قد تكون استثنائية، ممتعة بقدر ما هي محزنة، خاصة لعشاق أنتوني هوبكنز، ولهؤلاء الذين فقدوا أحبابهم بفعل المرض العقلي، ولهؤلاء الذين يحبون التفكر في ماهية الإنسان وكم هي هشة مثل قشة في مهب الريح أمام قوى الطبيعة الغادرة!

هذا واحد من الأفلام القليلة التي تخرج منها مختلفاً عما كنت عليه قبل مشاهدتها!