الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

صلاح البنا.. الباحث الشغوف يترجل في زمن الأوبئة

جاء وقع رحيلك المفاجئ صباح ثاني أيام عيد الأضحى، كصدمة لكل من عرفك. كنت بروحك المتحدية للمرض والمصرة على الحياة تعطينا كل الأمل بأنك تخطيت كل الصعاب.

إصرارك وتحديك للعديد من الأزمات الصحية، وآخرها عملية زراعة الرئة، التي عبرتها بنجاح وشجاعة، منذ سنتين، وخرجت منها كأنك الفائز «بماراثون» الإرادة المتشبثة بالحياة. كأن تاريخك وانتصارك على الهزات الصحية أنْبَت في وعينا نحن الأمل بأن روحك العنيدة قادرة على الانتصار الأكبر وحملك لمرحلة متقدمة في العمر والتحقق. اعتقدنا واهمين، يا صلاح الخمسيني أن الرئة الجديدة ستمنحك حياة جديدة.

لو أي إنسان غيرك، يسير بالكرسي وجهاز التنفس المعلق ببلعومه والممرضة ترافقه، لكان فضل البقاء في المنزل على متابعة اللقاءات الثقافية والندوات وحضور معارض الكتب. لكنك مختلف. والجمال دائماً في الاختلاف.

فلم ترَ الإمارات، ولا المحافل الثقافية الأخرى شبيهك بهذا التحدي كنت تشارك وتطرح الأسئلة وتستميح الحضور عذراً عن صوتك المختلف ولم تشعر بأي حرج. هذه السلاسة جعلت لحضورك وقعاً طبيعياً تضفيه على شخصيتك الراضية بقدرها، والقلقة في بحثها عن المعرفة في مكامنها.

قبل ذلك، كانت قد جاءتك الهزة الصحية الأكبر في جامعة إكستر في بريطانيا حيث كنت تتابع دراسة الدكتوراه وتكتب عن التاريخ السياسي ونشأة دولة الإمارات. اضطررت للعودة المفاجئة وتحت الخطر للبلاد. ودخلت المستشفى لفترات طويلة ومتكررة، اعتقد الجميع أنك لن تخرج من هذا الصراع حياً. لم تكن حتى قادراً على النطق. زرناك مراراً في العناية المركزة في مستشفى راشد، وكان الأمل بعودتك للحياة والتحدث يتضاءل أحياناً، لكنك تفاجئنا برغبتك بالكلام خاصة عندما تطلب جهاز الآيباد وتطبع ما تود التواصل معنا حوله. وكان دائماً السؤال عن جديد الكتب. وخرجت من تلك الأزمة على كرسيك وجهاز التنفس والممرضة الذين أصبحوا جزءاً من مكون رحلتك في الحياة. وكنت تترك للسيناريو أن يتحرك بتلقائية وطبيعية تامة. وانسجم الجميع معك، ومع رحلاتك الصحية التي انتهت بضرورة إجراء زراعة الرئة في دولة الإمارات، إذ إنك كنت في وضع صحي لا يمكن معه أن تغادر أو توضع في طائرة، أو تحت ضغط جوي. وفي تلك الظروف أقدمت على خطوة جريئة وهي الطلب للدفاع عن أطروحة الدكتوراه في الإمارات.

وجاءت الموافقة. وجرى ترتيب كل الأمور. وسافر أساتذتك إلى الإمارات. وفي إحدى قاعات فندق البستان روتانا جرى ترتيب اللقاء، ودافعت عن أطروحتك بجرأة وجدارة. وكنا جميعاً في حالة خوف وهلع من الضغط النفسي لمثل تلك الحالة على صحتك، وانخفاض مستوى الأكسجين في جسمك. ولم تغب عين الممرضة عن الجهاز. وفزت بلقب الدكتور صلاح. بعد العناء الطويل. وجاءت التوصية بالإجماع بنشر أطروحتك بسبب إضافتها العلمية المتميزة لتاريخ الإمارات. وتم التواصل مع دور النشر العربية والإنجليزية لطباعتها بالنسختين. وهنا دخل دورك كباحث منقح للتفاصيل والنقاط صغيرها وكبيرها. كنت تود أن تخرج أطروحتك كاملة دون خطأ أو ذلة.

وهنا أيضاً جاءت عملية زراعة الرئة في صدرك، والتي كانت الأولى في الإمارات. وكان الخوف كبيراً، فانتظرت الفرصة والمتبرع. وعندما جاءتك الفرصة، كان الخوف عليك كبيراً. وهنا كانت إرادتك أقوى من التحدي. وحققت بالعملية نجاحاً ليس على الصعيد الشخصي فحسب، بل على الصعيد الوطني، حيث دخلت السجل التاريخي للإمارات بتحقيق مثل هذا السبق، وتكون أول إماراتي تجرى له زراعة رئة ناجحة.

في مستشفى كليفلاند في أبو ظبي، زرناك مجدداً بعدما بدأت تتعافى وتستقبل الزوار، وتتحدث بطلاقة، وكنت كالعادة تسأل عن آخر القراءات ورغبتك في زيارة معرض كتاب أبوظبي على بعد خطوات منك.

وخرجت من كليفلاند وكان عليك التنبه دوماً من الأوبئة والالتهابات. وكنت تعود مراراً بعد وعكات الالتهابات، ثم تعود للوضع الطبيعي. وعندما قدمت محاضرتك عن اليسار في الإمارات في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات كنت مذهلًا وطبيعياً ونشيطاً بصورة أبهرتنا جميعاً، وتوقعنا لك المزيد من التألق الفكري، والعودة للحياة الطبيعية.

عندما دخل علينا «كوفيد-19» كان لا بد من التوقع أنك في منطقة الخطر أكثر من غيرك. وكنت في تواصلك على واتساب دوماً تسأل عن الكتب. وما زلت أذكر سؤالك عن رواية ذكرتها لهاروكي موراكامي، «رقص رقص رقص». وكان إصرارك عن كيفية الحصول عليها.

لذلك وأكثر، وربما لطمع الحي بالحي أنك باقٍ معنا يا صلاح، لم يكن لأي منا رغم كل ما عانيت وتعاني منه أن يتوقع رحيلك المفاجئ. كنت نشطاً بالتواصل والسؤال. وآخر ما سألت عنه كتاب «العاقل». وكنت ترسل المعايدات في اليوم الأول للأهل والأصحاب. كل من حولك في البيت، الوالدة والإخوة تفاجؤوا، خاصة أنك صحوت في الخامسة والنصف من صبيحة ثاني العيد، وتحدثت مع شقيقك الدكتور أحمد وخلدت للنوم ثانية. وبين الخامسة والنصف صباحاً والسابعة والنصف موعد إيقاظك خرجت روحك بهدوء وسلام من صدرك الأليم. يبدو أن قلبك قرر عنك التوقف، ورحلت دون أن تزعج أحداً.

عزيزي صلاح، أنت لم تمرَّ في حياتي كشخص عادي. دعني أفتح قلبي قليلاً وأسرد لك شيئاً من دواخلي.

عرفتك منذ زمن طويل وقبل أن تطأ أقدامي أرض الإمارات. منذ ما يقارب 36 سنة. كنت يا صلاح أول من تواصلت معه من أسرة زوجي ورفيق دربي. كنا ننسج خيوط علاقتنا في مطلعها، وكنت تتصل وتتوق للتواصل معنا. أذهلتني بحجم ثقافتك واطلاعك وعشقك لجديد الكتب واطلاعك على الوضع اللبناني والعدوان الإسرائيلي. عرفت فيك ومن خلالك الوجه الآخر لصديقك عبدالخالق الأب المعرفي، والنموذج الذي يسعى صلاح ليماشيه في حب المعرفة والاطلاع والقراءة.

ومضت الأيام والتقينا في أمريكا وأنا في رحلتي مع الدكتوراه وأنت تتابع الماجستير. يومها كنت أماً ومعي خالد وغيث. وكنت تلاعبهما وتشاغب معهما. ففي واشنطن أمضينا أجمل سويعات الأيام في النقاشات الفكرية والفلسفية مع الطلبة العرب وغيرهم وعلى رأسهم صديقنا المشترك أوليفر من الجزر الكاريبية. لا أنسى أنك أهديت ابني غيث أفضل الكتب القديمة عن التاريخ الأمريكي. وكنت وإياه تتابعان المكتبات القديمة في بريطانيا بحثاً عن الوثائق والخرائط القديمة.

حياتك لم تكن عادية، شخصيتك لم تكن عادية، شغفك بالقراءة والكتب لم يكن عادياً. كنت مختلفاً بجدارة. عشت مختلفاً بكافة أشكال الاختلاف. لم تساوم على اختلافك، وسرت معه إلى أبعد الحدود. لم تساوم على شخصك وشخصيتك. كنت أنت. صلاح مختلفاً في البيت ووسط الإخوة. في الجامعة ووسط الزملاء. ومن عرفك وأحبك، أو بعد عنك. لم يكن لديك منطقة وسطى. رفضت المساومة. فقد عشقت الرفض والمقاومة. كنت حتى زمن قريب تزودني بالأغاني القديمة والثورية ومنها لأحمد قعبور ومارسيل خليفة، وتذكرني بحماس الشباب. عشت أنت. ورحلت كما أنت.

حتى رحيلك جاء مختلفاً، إذ جاء هادئاً وغير متوقع. فهل تعبت يا صلاح مع مشاكسة الحياة لك، ومشاكستك لها؟

لماذا قررت الرحيل الهادئ والسريع في زمن الأمراض والأوبئة والحجر الصحي، والتباعد الاجتماعي؟ هل خشيت على هشاشة جسدك من كل الأوبئة المحيطة؟

من كان مثلك يا صلاح من شباب الإمارات لا يرحل عن واقعه، لأنه نسج من اختلافه ومثابرته إرثاً لذاته. ليتك اليوم تقرأ ما يكتب عنك وتعرف المزيد عن قدرك ومقدارك. ولربما روحك تستشعر كل هذا التقدير الذي جاء ليكرس رحلتك المكثفة مع الحياة. فمن مثلك يقدره الله على صدقه وشفافيته مع الحياة، ولذلك سخّر لك من ملائكته في الدنيا أشخاصاً كي يساعدوك في إتمام رحلتك حتى بعد رحيلك. فأطروحتك باللغتين العربية والإنجليزية سوف تنشر. وأثرك سيبقى لا بل يكبر، ويزهر حتى بعد رحيلك.

ارجع راضياً مرضياً لمواجهة ربك الذي أكرمك، حيث جافاك البعض. وسخّر لك الحضور حتى بعد الغياب.

صلاح، بإذن الله كتبك سترى النور، ويتعرف طلبة ودارسو التاريخ الإماراتي على نموذج من الجهد البحثي لشاب مختلف، هو مرجع في عشقه المعرفي للإمارات والتاريخ الإماراتي، فلا بأس أن تكون مختلفاً.