الثلاثاء - 23 أبريل 2024
الثلاثاء - 23 أبريل 2024

امتداد استثنائي للحرية

امتداد استثنائي للحرية
أن يكتب المرء، معناه: أن يهمس بهواجسه السرية، ويتخيل جمهوريته الفاضلة التي لم يعثر عليها الناس يوماً إلا في رؤوس عدد من الفلاسفة والشعراء ودعاة السلام، لكنهم لم يكفوا عن البحث عنها، أو التنظير والسعي الدؤوب من أجلها ولو بالحد الأدنى.

ومعناه أيضاً: أن يعيد قراءة الواقع، أو يقوم بتجاوزه إلى عزلة نحو الداخل، ويقول عالياً ما لا يجرؤ الآخرون على مجرد التفكير به في سرهم، فكل كلام الكون، وكل إمكانات الشرح والتوصيف، لا يمكن أن تنقل عمق التجربة، إلا إذا خاضها الإنسان بنفسه، وخاصة إذا كانت جوعاً أو مهانة أو إذلالاً عنصرياً، أو حرباً وتشريداً.

وسعادة الكتابة تكمن في موسيقاها الداخلية، وتعدد زوايا الرؤية، ولا يلغي هذا بالطبع الحديث عن الأجناس الأدبية، فالسرد في الرواية والقصة، يختلف كثيراً عن المسرح والشعر، ولكن توجد مشتركات فكرية حقيقية هي: التجارب الكبرى، ونبرة الخطاب ومدى علوه وتحليقه، بحيث لا يكتفي بمشاهدة القمم فقط بل يرى الوديان وتعرجاتها أيضاً، وأن يستبق ما لا يلتقطه العقل لأول وهلة، ولا يشعر به القلب تلقائياً، لأن هذا هو الذي يحفر المدارات الفكرية والنفسية، التي تسبر صخر الوجود والأذهان.


كل هذا يعني: أن يبدع المرء.. أي أن يخترع عوالم أخرى بلا نهاية.. أن يمد المرآة السحرية التي تعكس حياتنا فيعيدنا إلى ذاتنا.. إلى غربتنا الحميمة، وأن يبحر عكس التيار، ويحارب بما أمكن ضد تنين العادة.. أن يدهشنا، أن يأتينا دائماً من حيث لا نتوقع وبما لا ننتظر.. أن يزعزع كسلنا ويخرب عاداتنا الأليفة.


حين يكتب الأديب، فهو سيد العالم، وحين يبدع فهو يقترح علينا امتداداً استثنائياً للحرية، وما يساعده على ذلك وجود خيارات كثيرة للبحث والإبداع في المجالات الروحية والمادية.. فالنصوص المبنية على ثقافة عميقة تتدفق دون مواصفات مسبقة، ومن هنا تأتي فرادتها وقدرتها على إمتاع العقل والنفس.

وما أروعها من لحظات، تلك التي يشتعل فيها الحنين إلى الأيام الخوالي، فتغمض العيون من تعب السنوات، ويطلق العنان لخيول الأفكار تصهل في مساحات العمر الماضي، لترتاح في ظلال المواقف المختلفة، التي شكلت تفاصيل يوميات، وأفضت إلى تجارب في الحياة.

وطالما أن الأمر يتعلق بلغة الخطاب الأدبي، فإننا نقرأ أحياناً نصوصاً تجعلنا نشعر بالاختناق فلا نستطيع إتمام القراءة، كما نقرأ نصوصاً نتمنى ألّا تنتهي، بل نعيد قراءتها أكثر من مرة، وفي كل مرة نشعر بأن بعض نغمات اللغة السردية قد فاتتنا في المرة السابقة، ومثل هذه النصوص تؤسس لحساسية فردية واجتماعية، لأن الفكرة الجميلة تعني عبارة أجمل، وهذا بالتأكيد مرده إلى اللغة التي تظهر حين نتحدث بها، أو نكتب حول الجمال والمتعة، ومعنى الوجود، والحراك الاجتماعي، والزمان والمكان اللذين نعيش فيهما، وأحوال الناس، وطبيعة القيم التي تسود بينهم، وهي قيم متفاوتة ومتعددة الأوجه.

فاللغة وسيلة الفهم والبحث لأنها في المعنى الأعمق أشمل من هذه الأوصاف، إذ لا يمكن لصاحب القلم أن يتعامل مع اللغة برؤية الصدفة دون الكشف عما بداخلها، لأنها لا تتظاهر، بل تكشف المستور وما لا تراه النفوس والأنظار، لذلك فهي بمعنى محدد للغاية: ثقافة، عندما تتحول إلى نصوص غنية لا ترى سطح مياه البحر، بل ما هو تحت ذلك من غامض ومجهول وجميل.