الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

عقود في طيّاتها الغدر

عقود في طيّاتها الغدر
بقدر شغفي لاكتشاف العالم وتجاربي المختلفة في السفر، قررت أن أشارك معكم محطة من المحطات التي لم ألتقط عندها صورة تذكارية، فالعبرة كانت كفيلة بادخار تلك اللحظات.

عبر رحلاتي في ميادين العمل كنت أحرص على تمثيل ذاتي لإيماني بكلمات أبوالبقاء الرندي: «لكل شيء إذا ما تمّ نقصان»، وثقتي بأن المرء لا يحتاج إلا أن يتشبّث بنفسه، وعلى يقين بأن فَراشي المساحيق التجميلية لن يروي جمال الثغرات، لكنني لم أعلم أن ما كان ينتظرني بعد توقيع العقد كان يتعدى البنود المنصوصة رغم نهَمي بمراجعة حروف الملحقات مراراً، إلا أن قاعدة الغدر في طيّاتها ثابتة كما هو متعارف عليه.

أذكر في ذلك اليوم كانت معايير الانطباع الأول لا تشبه شيئاً من الذي رسمته، فأنا فعلياً لم أحتَج إلا لموقع سكني ونوعه، وإثبات قيمة رصيدي في البنك، ويا حبذا أملاكي العينية إن وُجدت، لاجتياز الاختبار الأول للتصنيف الاجتماعي، ودعوني لا أنسى العلامة التجارية لهندامي لأستطيع إلقاء التحية الأولى، وأضمن بذلك تحقيق المعايير الترحيبية.


لربما لم أحتج للتعريف عن كفاءتي وما أمتلك من الإنسانية عند حافة منضدة الاجتماع المزخرفة، التي كانت تشبه أصحابها كثيراً ليتهيأ لي أنهم الجزء الذي خلا من العتاقة فقتله الصدى.


تفضلت وأحكمت الرزانة، واستأذنت الصبر ببضع دقائق لأبحث فيهم بين السطور النرجسية، التي كانت تحيط المكان، عن النباغة والفطنة والتألق، فوجدت أن الرزق بشتى أشكاله قد شدّ الرحال، وهجر المكان ولم يترك شيئاً من التواضع وراءه.

مع الوقت أدركت أننا نتقابل بتفلّت محبوك، وكل منا يترعرع في مزيج اجتماعي وثقافي، وينضج في قالب وراثي مختلف ليخلق من وجوده هوية مميزة، ونعيد نسج حكايات أخرى في تلك الشخصيات التي نقابلها في مجتمعاتنا، ونوقن بأنها ما هي إلا حصاد غرس ماضٍ عتيد قد يكون لطّخت عوده تجربة عابرة، أو بعثرت توازن جذعه تقلبات الزمن، وبالأخصّ إن كانت جذوره هشة.

يبدأ الصراع الحقيقي في تحديد نقطة الوسطية والاعتدال بهدف التعايش، فتجد أن مبادئك التربوية تغرق أمام تحدٍّ عارم، فأنا وأنت نؤمن تماماً بأن الثراء قد يشتري كل ما نتمنى، حتى قد يحقق معياراً من معايير السعادة اللحظية، لكنه لا يشتري الفضائل ولا الراحة ولا حتى القناعة ولا يشفع للمنكر، ولو وُجد ليثمّن لما طلّق رجل سيدة بمهر باهظ ولا أجمع البشر على جمال موناليزا الحرب الأفغانية، ولا كنا سمعنا بخبر وفاة أغنى الحكام في مشفى عالمي!

التحدي الأكبر في هذه الحياة باعتقادي هو معتقدات الإنسان، وما نختلط به ما هو إلا انعكاس المرء الداخلي، الذي قد ظن بأنه مبطّن بغشاوة.. قد يكون المرء لا يعي تماماً أن النقص هو النعمة، وفيه تتحقق محاور الكمال وأسس الحياة واكتمال الجاه، إلا أن تعريف النقص الحقيقي هو الاستسلام لكل ما ينادي بتقليص احترام الذات وصون الكرامة تماماً كادعاء الحرية في أرض لست صاحبها، وإصدار الأحكام على أهلها.

أنا لا أعلم متى سيدرك الإنسان أن قيمة المرء تكنز بجوهره، إذ تستطيع أن تقود مركبة فارهة، وتكون رجل أعمال، وصاحب منصب مرموق، ورائد فضاء، لكنك بالفوقية الزجاجية تغدو كوكباً متوارياً عن الإعجاب والتقدير.