الثلاثاء - 23 أبريل 2024
الثلاثاء - 23 أبريل 2024

منصب بالإكراه.. والأرزاق مكتوبة

منصب بالإكراه.. والأرزاق مكتوبة
يروى أنه، قبل الميلاد بأكثر من 600 عام، نُصِّب أحد الحكماء قاضياً في بلدة بلا ملك أو حكومة، دون تكليف رسمي أو خطاب مختوم، وذلك أن الناس كانوا يجتمعون حوله حباً فيه وثقةً في حكمته وقدرته على حل النزاعات بينهم، ما جعله يتولى ذلك المنصب «عُرفاً».

وبمرور السنين تعِب الرجل وهرِم، فاختار التقاعد من وظيفته تلك، إلا أن عدم وجود أي شيء رسمي يثبت تقاعده حال دون تفهُّم الناس للأمر، وهو ما أدام اللجوء إليه عند الحاجة.

الحالة تلك طالت حتى جعتله يفكر في طريقة للخلاص من الأمر، فقرَّر أخيراً هجر البلدة والتوجه إلى غيرها، ليقوم كما نقول هذه الأيام بـ«شراء راحته» رغم مشقة السفر ووحشة الغربة.


اللافت في حكاية القاضي أنه ورغم وصوله لأعلى المراتب إلا أنه لم يسعَ إلى المنصب كما يبدو، ولم يزاحم أحداً عليه، ولم يحاول الإيقاع بمن حوله بغية النيل منهم، والتفرد بالمكانة المرموقة في المجتمع.


كما أنه لم يحاول ضمان مستقبل أقربائه وأحبائه لشغل ذلك المنصب والاستحواذ على الجاه، بل على العكس، فمحاولة تهربه من المنصب فسحت المجال لاحقاً لكل من يريد إثبات نفسه وتقلّد السلطة، وهو شيء من النادر حدوثه.. فهل كان عقل ذاك المُسن فارغاً من الطموح وحب المال والجاه؟

تبدو الإجابة لنا واضحة، في التميز بموهبة خاصة أو فريدة في مجال العمل، والتي تترتب عليها غالباً صفة الثقة بالنفس وعدم الانشغال بالتفاصيل غير المهمة من حولك، وهي خِصال ما إن ملكتها في بيئة عملك بات من الصعب التخلي عنك، أو ربما تخيل يوم عملٍ واحد دونك، فهناك دائماً من تتم استشارته إيماناً برأيه السديد رغم عدم وجوده ضمن فريق العمل، وهناك على النقيض من تكون مُجبراً على إضاعة وقتك باستشارته، لأن الجلوس معه جزء من خطوات الاعتماد الروتينية الواجب اتباعها!

وبالحديث عن أصحاب المواهب، أذكر أن أحد الزملاء كان مميزاً بكتاباته المتقنة، ورغم تغير الهيكل التنظيمي لمؤسسته لأكثر من مرة، وتغير الأشخاص من حوله، وتغير مسماه الوظيفي ودرجته حتى مكتبه، واستقدام كُتاب جيدين حوله، إلا أن قادة المؤسسة كانوا يصرون في كل مرة على تواجده الشخصي في العديد من الاجتماعات والمناسبات فضلاً عن السؤال عنه حال تغيبه، وذلك بغية تكليفه شخصيّاً بالعمل المطلوب غير مكترثين بمسماه الوظيفي الحالي أو درجته أو حتى استشارة مديريه.

لقد قال أحد المسؤولين له مازحاً: «حتى إن عملت موظف استقبال فستظل أنت من يقوم بهذه المهمة»، وهو ما جعل زميلي على ما يبدو في حالة ارتياح دائمة رغم مرور المؤسسة بالعديد من التحديات المقلقة للموظفين من حوله، الذين باتوا ينظرون إليه نظرة المستشار المُحنّك، تماماً كما كانت حال ذاك القاضي.

لكن، ومن قال أن قاضي البلدة لم يسْعَ خلف المنصب والشهرة والمال؟ أو ليس إنساناً طبيعياً؟.. فالحكاية تقول في تتمتها إن الناس لحقوا بحكيمهم بعد أن اضطربت البلدة، وشاعت فيها الفتن، وانتشر بها القضاة المُرتشون، وحاولوا إقناعه بالعودة وتولي منصبه من جديد، ولأن القاضي العجوز كان قد سئم الغربة وذاق من وحشتها الكثير، قرَّر العودة لكن بفرض شروط جديدة، منها: تنصيبه ملكاً على البلدة، ومبايعة جميع أهلها له، وتشييد قصر ضخم يُنصب في مقدمته تمثال له بصفته ملك البلدة.

وقد كان له ما أراد، واستمرت عائلته في الحكم حتى قيل إن أحد أحفاده كان «سيروس» مؤسس الإمبراطورية الفارسية! وكما قيل: كما أن لسانك لا يمكن له النطق لغيرك، فكذلك رزقك لن يذهب لغيرك!