الخميس - 25 أبريل 2024
الخميس - 25 أبريل 2024

لقاح من معبد «كولا»

لقاح من معبد «كولا»

PSX_20200323_234833 لقاح من كولا

بقلم: سميرة الحوسني باحثة وتربوية ـ الإمارات

في محاضرته الثرية بتأريخها، الغنية بعلمها، والتي ألقاها في باريس عام 1965، عن الطب البابلي، عاد البروفيسور الفرنسي عالم الطب الآشوري «رينيه لابات» في تفسيره إلى أن ميكانيكية العالم كانت حتمية بنظر البابليين والآشوريين، وقوة هذه الميكانيكا المُسيّرة للعالم كانت تنقسم لقسمين، الأول: متجه نحو الإرادة الإلهية والثاني: متجه نحو فوضى العناصر المكونة.

العلاقة بين الاثنين كانت غير متوازنة، وما المرض الذي يصيب أعضاء الجسم البشري إلا تعبير عن هذا التوازن القابل للاضطراب والإبطال، فالمرض يؤكد خلل ديناميكية العنصر أو العضو وهو أمر لا بدَّ منه.


ولعل الوثيقتين الطبيتين الشهيرتين والمكتوبتين بالخط المسماري في اللغة السومرية ـ تعودان إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد ـ تعتبران اليوم أقدم وثائق طبية عرفتها البشرية جمعاء، حيث تم العثور عليهما في معبد الإلهة «كـولا»، وهي «السيدة الشَّافية»، و«المنجدة الكبيرة» و«سيدة الحياة»، و«إلهة الشفاء» في الحضارة الآشورية.


لقد قام زوجها «نينورتا» بإنشاء أول مدارس الطب في التأريخ، وكانت على قبور الموتى متمثلة في هذا المعبد ذي الاختبارات العديدة لأنواع من العلاجات الطبية العلمية في نيبور، والذي اتفق علماء الآثار جميعاً على أنه أقدم المعابد وأكثرها جلبة للاحترام، والسبب يعود في هدفه وهو تدريس الطب والاستشفاء.

المذهل في الأمر أن الوثيقتين احتوتا على نوع من الأدب نستطيع أن نعتبره جديداً في عصرنا، ولكنه كان منتشراً آنذاك وهو «الأدب الطبي»، الذي كان يحوي جميع الأمور المتعلقة بالطب وأمراضه وأوبئته من خلال النصوص الأدبية، لعلَّ نص الملك «زميري ليم» ملك ماري، وهو يخاطب زوجته في قرار الحجر الطبي الذي أقره، والذي كان في عصر أور الثالثة أو العصر القديم، والمؤرخ من القرن الثامن عشر قبل الميلاد، لهو أكبر شاهد على تأريخ الطب الآشوري المتقدم في وادي الرافدين، وهو كذلك الشاهد على أدب الطب الذي انتشر آنذاك، حيث يقول النص على لسان الملك «زمري ليم»: «سمعتُ بأن السيدة نانامة قد أصابها مرض، و لهذا أعطيت الأوامر الصارمة لأي شخص بعدم الشرب من نفس الكأس الذي تستعمله هذه السيدة، وبعدم الجلوس على المقعد الذي تجلس عليه، وبعدم النوم على الفراش الذي تنام هي عليه، وعليها قطع الاتصال المباشر بعدة نساء في محل سكنها، فهذا شر مُعدٍ». هذا النص يعرض لنا الاعتبار المنطقي والعلمي لمرض السيلان المعدي، فالأطباء أنفسهم كانوا استقرائيين، أي أنهم تدربوا بالتجربة، واستفادوا من التأثيرات والنتائج.

ولكن ما يثبته التاريخ لنا عبر الأزمنة هو التناسب بين نوع الأوبئة والأمراض مع التنوع البيولوجي والاقتصادي والحضري والاجتماعي والسياسي لكل عصر، حيث عانت البشرية من سلسلة من أنواع الطاعون عبر العصور إلى أن جاء القرن التاسع عشر، وهو قرن الحروب وجثثه البشرية في قارات العالم القديم والحديث والذي عُرف بقرن الأوبئة، فالطبيب الفرنسي «شارل ألفونس لافران»، الذي اكتشف وباء الملاريا في الثكنات العسكرية في قسنطينة بالجزائر كانت خطواته ثابتة في دراسة طفيليات هذا المرض الشبيه جداً بالزمن الذي وُلد فيه، وبعده إنفلوانزا إسبانيا وهكذا دواليك.

والسؤال اليوم: هل لا يزال الإنسان ينتظر الوباء ليفكر في لقاح له، أم أن التأريخ يعلمنا أن التطور الزمني له معايير في تطوره البيولوجي والطبي، والذي يعطينا من المساحة ما نستطيع فيه إعادة ترتيب أولوياتنا تجاه الطب وعلاجاته ولقاحاته؟ لنعود ونقول: إن من يقرأ التأريخ لا يدخل اليأس إلى قلبه.. ودام هذا العالم بصحة وسلام.

للنشر والمساهمة في قسم الساحة :[email protected]