الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

تقنين جرائم الحدود والقصاص.. المثال الإماراتي

تقنين جرائم الحدود والقصاص.. المثال الإماراتي
ياسر محمد عطية الرئيس السابق بنيابة الاستئناف ـ أبوظبي

أثارت مسألة تقنين الشريعة الإسلامية خلافاً بين الفقهاء المعاصرين، فمنهم من ذهب لرفضها بالكلية، ومنهم من أجازها بشروط، ومنهم من رأى أفضليَّة التقنين.. ونحن هنا لسنا بصدد الخوض في هذه المسألة، وإن كنا نميل للرأي الأخير.

والتقنين يعني صياغة أحكام الحدود والقَصاص والدّية والمعاملات وغيرها، في صورة مواد قانونية يسهل الرجوع إليها، بحيث يكون لها طابع آمر ولا يجوز للقضاة القضاء إلا بمقتضاها.


وقد ظهرت محاولات عديدة لتقنين الفقه الإسلامي في القرنَين الماضيَين، منها: «الفتاوى الهندية»، ومجلة «الأحكام العدليَّة»، وتضمنت جملة من أحكام البيوع، والدعاوى في الأحوال الشخصية ككتاب «مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان».


ومع اختلاف آراء الفقهاء اختلفت كذلك النظم في تطبيق الشريعة الإسلامية، فمنها ما لم يأخذ بفكرة تقنين الشريعة وترك للقضاة العمل باجتهادهم وفقاً للسوابق القضائية، تاركاً للمحكمة العليا الدور في توحيد تلك المبادئ، ويعتمد هذا النظام في الغالب على السوابق القضائية، فيكون للقاضي دور تشريعي، بالإضافة لدوره القضائي، وللأحكام وظيفتان، الأولى: هي الفصل في النزاع المعروض على المحكمة وحسمه، والثانية: هي أن المحكمة بقضائها تُنشئ سابقة قضائية ومنها ما ذهب إلى تقنينها، أي صياغتها في شكل قانون يتوجب على القضاء العمل به، وعدم الخروج عنه إلا في حال عدم وجود نص يحكم المسألة.

ويجمع القانون بين دفتَيه جملة آراء من المذاهب الفقهية بما يتناسب وواقع الحال، مع الإبقاء على تطبيق مذهب معين حال عدم وجود نص.

وقد حرصت دولة الإمارات العربية المتحدة منذ نشأتها على تطبيق الشريعة الإسلامية، سواء أكانت مقننة كالمعاملات المدنية أو الأحوال الشخصية.. إذ تم تقنين الأولى بموجب القانون رقم (5) لسنة 1985 بإصدار قانون المعاملات المدنية، وحال عدم وجود نص، يحكم القاضي وفقاً لأنسب الحلول من مذهبَي الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل، فإذا لم يجد فمن المذاهب المعتمدة الأخرى، من ذلك مذهبا الإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة، حسبما تقتضيه المصلحة، فإن لم يجد فبمقتضى العُرف، كما تمّ تقنين مسائل الأحوال الشخصية بالقانون الاتحادي رقم (28) لسنة 2005، وجمع القانون بين المذاهب الفقهية الأربعة، كما أخذ بآراء غيرهم من علماء الأمة المعتبَرين كابن تيمية وتلميذه ابن القيم، أشهرها اعتبار الطلاق المقترن بعددٍ لفظاً أو إشارةً لا تقع به إلا طلقة واحدة، وحال عدم وجود نص بالقانون يحكم بمقتضى المشهور من مذهب مالك، ثم مذهب أحمد، ثم مذهب الشافعي، ثم مذهب أبي حنيفة.

إلا أنه لمَّ القواعد الخاصة بجرائم الحدود والقصاص والدِّية، وإن كانت الشريعة الإسلامية هي الواجبة التطبيق، إلا أنه لم يتم وضع قواعد قانونية محددة بشأنها، إنما يطبق المذهب المالكي المعمول به في الدولة وفقاً لما انتهت إليه أحكام المحاكم العليا، التي تضطر أحياناً للخروج عن هذا المبدأ إلى غيره من المذاهب لعلة ارتأتها، ولعل أشهر تلك التطبيقات مسألة جواز أخذ المسلم بغير المسلم قصاصاً.

وكنت قد اطلعت على مشروع قانون أعده أحد القضاة بالدولة، يجمع ما بين أحكام المذاهب الفقهية، وما استقر عليه القضاء من أحكام، وقد تبيّن لي أثناء عملي في النيابة العامة بإمارة أبوظبي الحاجة الماسَّة لذلك التقنين الجزائي، والذي لا يقتصر على مذهب فقهي واحد لما في ذلك من سعة في الآراء، أسوة بما انتهجه المُشرّع الإماراتي في التقنين المدني، وتقنين الأحوال الشخصية.