الثلاثاء - 23 أبريل 2024
الثلاثاء - 23 أبريل 2024

«محمود الديوبندي».. ذكرى وتذكُّر بعد مئة عام

«محمود الديوبندي».. ذكرى وتذكُّر بعد مئة عام
حسان أنور كاتب صحفي ــ الهند

تابع المسلمون الحكم السياسي على الهند لمدى قرون، ثم انتهى باحتكار القوات الأجنبية تدريجيا لأراضينا الثرية بالموارد الطبيعية والمعالم التاريخية والحضارة العريقة؛ حيث أصبحت أغلبيتها مقيدة بسلاسل الاستعمار البريطاني، ما دفع نخبة من الهنود للنهوض لاسترداد بلادهم من المستعمرين، ومنهم الإمام «محمود حسن الديوبندي»، الذي ستمر في نوفمبر المقبل مئة عام على وفاته، وبهذه المناسبة التذكارية، تحتفل الهند بإحياء إنجازاته إبَّان مسيرة نضاله.

ومن الملاحظ أن العالم محمود حسن من أخلص الأوفياء الذين كانوا مجبولين على خدمة وطنهم والفداء به، وحياته كانت حافلة بالإسهامات الدينية والوطنية، ويمكن اختصارها في مرحلتين؛ الأولى: تميزت بتثقيف أجيال الفكر الإسلامي في رحاب جامعة ديوبند، والثانية: اتضحت في المقاومة الشرسة ضد الاحتلال.


وللعلم فإن دار العلوم دیوبند قد أسِّست في إطار محاولات مدروسة هادفة إلى توفير واحة خصبة للفكر العربي الإسلامي الوسطي، وزرع حقولها في منطقة جنوب آسيا، وكان محمود حسن الديوبندي على رأس الدفعة الأولى المتخرجة فيها.


خلال حياته العلمية تجذر في دراسة العلوم الإسلامية، ليتميز بهوية دينية راسخة، وليكون شخصية قيادية ناضجة صقلتْ مواهبَها، وبلورتْ أفكارَها تربيةُ الإمام قاسم النانوتوي.

ترعرع محمود حسن في بيئة تعج فيها الهند بالاستعمار كما أخفقت فيها الثورة العارمة في 1857م، التي تعرَّض فيها عدد كبير من المناضلين المسلمين لاستنزاف دمائهم، فاهتدى إلى انشاء شبكة الثقافة العربية والدعوة الإسلامية، وبث أسلاكها في داخل الهند وخارجها وربطها بالمعقل الإسلامي العملاق دارالعلوم دیوبند.

ونتيجة لصدق نيته ونبل أهدافه، أيّده الله بنصره وبكوادر من نوابغ الفكر الإسلامي، الذين عاضدوا قدوتهم في المهمة، فكان لأقلامهم وألسنتهم دور ريادي بزعامته، في تطوير الرؤية التي ساعدت الهنود في معالجة الأزمة الفكرية أثناء نضال الاستقلال.

وما إن توقف عن ممارسة الأنشطة التربوية والإدارية، حتى كرس بقية حياته لتهيئة مناخ سياسي لضمان حماية مصالح الشعب الهندي، والذي هزَّ بنيان الاستعمار هزة عنيفة لم تتمكن من الاستقرار بعد ذلك. وقد انبعثت حركة الاستقلال منذ الفتوى التي أصدرها عبد العزيز الدهلوي في 1803م، والتي تعتبر نقطةَ البداية لمكافحة الاستعمار، ولما اتَّصل محمود حسن بالحركة مع ثُلَّة باسلة من أتباعه في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي نفخ روحا جديدة فيها، إذْ كان له دور متميز في لَمِّ شملِ القبائل المتناثرة في منطقة غرب الهند لتثور على المستعمرين.

لقد استقام رمزا للإخلاص والتضحية أمام تحديات حاسمة لخدمة الوطن وشعبه، طيلة حياته التي انتهت باعتقاله ونفيه إلى جزيرة مالطا، فما كُتِب له أن يجني ثمار ما غرس من أشجار باسقة، لأن الأجل المحتوم وفاه قبل أن تُطِلّ الهند دولة مستقلة على خريطة العالم.

جدير بالذكر أن جل مآثره المبهرة تحيا وتشهد بعظمته وتفوح منها نكهته، ولو فنى جثمانه في الثرى، وتتجلى موهبته القيادية بوضوح في وضع خطة استراتيجية، وإعادة تشكيلها لأجل تطبيق رؤية الإمام النانوتوي.

لقد تميز ـ رحمه الله ـ من خلال انطلاق سياسي وثقافي عبر إنشاء حركات باسم«ثمرة التربية»، و«جمعية الأنصار»، و«نظارة المعارف القرآنية»، و«رسائل الحرير»، و«جمعية علماء الهند»، و«الجامعة الملية الإسلامية» وجميعها تدل على سمو طموحاته، وبعد نظرته الثاقبة، ومثابرة نضاله، وحنكة سياسته، وخلود بصماته وجدِّية مغامرته.

وبعلمه وجهاده ـ وغيره من العلماء والمقاومين ـ الحركات أقبل الهنود على الجهاد ضد المحتلين، وبالتالي انشق الطريق لحرية البلاد، وحتى اليوم، رغم مضي قرن بكامله على رحلته ورحيله، يسمع الخلف صدى مقاومة سلفهم في معارك النضال.