الأربعاء - 24 أبريل 2024
الأربعاء - 24 أبريل 2024

المواطن رقم 10 آلاف

المواطن رقم 10 آلاف
مريم عيسى مهندسة وطالبة دكتوراه - الإمارات

أشد أزري، أغلق حقيبتي الضئيلة، أبحث عن كتابٍ يُسليني، تقع عيناي على كتابين لم أقرأهما بعد، احتار بينهما واختار "ذائقة طعام هتلر"، أتسلح بالكتاب ذو الغلاف الأحمر، كرفيق الدرب الموجع، ذاك الذي كنت أسعى إليه بفرح، انتشى مع صوت فيروز فأنسى زحامه، وأطرب على عود عبادي فلا تؤرقني بعد مسافاته، التسلح بكتابٍ رفيق أصبح ضرورة، صار الدرب مليء بالانتظار، ومكتظٌ بكابوس الاحتراز.

شارع الشيخ زايد باتجاه أبوظبي، بيدي عصارة ذاكرة ذائقة طعام الفوهرر، تركز في ذهني:" الإنسان يأكل كي يقاوم الموت"، أردد ويلبس الكمام ويحتمي بالقفاز، ويبتعد عن الأناس، لا يسلم، لا يقبّل، ولا يواسي بالأحضان كي يقاوم الموت أيضاً.


لحظات سريعة مرّت لم أتأمل فيها الأبراج على غير العادة، يخفت صوت عبد المجيد وهو يردد "وسط صدري نص قلب" إعلاناً عن بداية ازدحام الجسر، لِدخول خيمة الفحص، للحظي بتقرير خلو من الفيروس وبطاقة عبور ذهبية إلى العاصمة التي أحب.


على غير ما سمعت ورأيت وتوقعت لم تمر دقيقتان وأرانا نتخطّى الزحام، نلبس الكمام، ونمشي وسط الغبار نبغي مدخل بوابة العبور، عشوائياً دخلنا الصّف الثاني قبل الأخير، مرّت دقائق توسطنا فيها الطابور بعد أن كنّا في نهايته، هناك، ومن منتصف الطابور، أنا الفتاة التي تكره الانتظار، ودّدت لو طال الانتظار أكثر، أن أتعب من الوقوف، أتأفف من الزحام، يخنقني الحر، تمنيّت أن يتناساني منظم الطابور عمداً، يتجاوزني ويأخذ أحد معارفه من خلفي، أن أجد ثغرة لهذا التنظيم الدقيق جداً، أن أرى نقطة لا تجعلني أهيمُ حباً في بحر هذا الوطن!.. أن أفقد صبري وأشتم الفيروس، أن أتمتم بأدعية خفية على من تسبب به.

ــ سُحقاً، كل هذا لم يحدث!

في تلك اللحظة أعجزني انجازُ بلادي..

أصل إلى كرسي الفحص، ابتسم بعينيَّ لرؤساء اللحظة، كسبت ودهما بسؤالي عن الحال فأرادا ابهاجي.. رددت الممرضة بلغة انجليزية هجينة :

ــ هل تريدين حقيقة غريبة، وإن كانت تتسم بالسخافة قليلاً.

ابتسمت عيناي أكثر:

ـ لِم َلا!؟.. هاتِ ما عندك، فأنا أُبهر بكل معلومة جديدة حتى تلك التي كانت تكتب في هامش صفحات مجلة ماجد.

بنظرة سريعة واشارة على زميلها من خلف الطاولة، رّدد:

ــ أنتِ المواطن رقم 9997 الذي يهم بالفحص اليوم.

بانت ابتسامة عينيَّ مجدداً، مرت عشرون ثانية ربما أكثر أو أقل بينما يدخل هو بياناتي، وتأخذ هي قطرة من دمي، حين ردد ببهجة:

ــ " you are the 10000 now!".

بانت دهشتي من عينيَّ مجدداً، في ثوان أصبحت المواطن رقم عشرة آلاف الذي قام بفحص DPI لدخول أبوظبي، وهذا ليس تعبيراً مجازيّأً لتحقيق غاية أدبية، يا له من تمييز!

دقائق مرّت، تصلني رسالة العبور، دمّي خالٍ من الفيروس، وكل إيجابيّة الدّنيا تحلُّ بي وأنا أرى كلمة سلبي تملأ شاشة هاتفي بالخط العريض.

أهم بالخروج، مُثقلة بحبٍ غريب.. عند عتبة الخروج، أتعبني ترديد العامل "take water please"، يصرخ داخلي:

ــ لا ترجوني أرجوك! أنا المواطن رقم عشرة آلاف لهذا اليوم، أترجاك أن ترشقني بتلك القارورة اللعينة، كي لا تدمع عيناي فخراً، ولا أختنق حباً بوطن يحبّني كما لم يحب وطناً مُواطنٌ قط!

شخصياً، تعبت تمجيد هذا الوطن، لأن التمجيد وحده لا يكفي!.. لم أكتب يوماً قصيدة، ولا نصّاً في حب هذا الوطن، لأن قلبي مثقل بحب لا أقدر على بَوْحِهِ!.

تعجز بلاغتي، وتتزاحم عند أول مخرج كلماتي، تتراكم، تحبس بعضها ولا تخرج.. ممتلئة بحب لا يباح، أبذل جهدي، علّي بنجاح صغير أرد ولو ذرة مما بذل هذا الوطن.

أنا المواطن رقم عشرة آلاف الذي همّ بدخول عاصمة السلام" أبوظبي".. اليوم الأحد، الثالث والعشرين من أغسطس من سنة العشرين بعد الألفين ميلادي،

يرجف قلبي خوفاً من موت محتمل نتيجة الحب خنقاً من الفخر!.